كان السلف الصالح يحرصون على إجلال المعلم والمبالغة في احترامه وتقديره، وكان أول هؤلاء هم الصحابة أنفسهم حيث كانوا يحرصون كل الحرص على إجلال وتقدير وإظهار المحبة والاحترام لأهل العلم منهم، كما كانوا يظهرونها لمعلم الأمة الأول محمد عليه الصلاة والسلام.

وحتى الملوك السابقين كانوا يحرصون على تبجيل واحترام العلماء والمعلمين الذين هم ورثة الأنبياء،وذلك لأن العلم هو أصل معرفة الهدى الذي ينجو به العباد من الضلال، وهو أصل كل عبادة وهو الذي يعرف العبد كيف يدفع كيد الشيطان،

وقد رفع الله تعالى منزلة العلم والعلماء وأثنى عليهم،  يقول عز وجل في كتابه العزيز” يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العلم درجت”، والعلم من أفضل القربات للمولى عز وجل والدليل على ذلك أن الله جعل لطلبة العلم ولمعلميه ثواب عظيم فقد قال سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام ” من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا”، وفي هذا الحديث دلالة على ثواب المعلم وأجره العظيم، والذي يستحق التقدير والإجلال من أجله، وهناك الكثير من قصص السلف تؤكد على إدراكهم لتلك المعاني وتكريم المعلمين.

فكما قال عبدالرحمن بن مهدي والذي درس على يد كبار علماء عصره مثل سفيان الثوري وعبدالله بن المبارك وغيرهم، أنه في عصره كان الرجل عندما يقابل من هو أعلى منه في العلم كأنه وجد غنيمة، وعندما كان يقابل من هو مثله في العلم كان يدارسه، وإذا لقي من هو أقل منه في العلم تواضع له وعلمه، وهذه هي أخلاق العلماء التي اتصف بها أهل السلف، فقد كانوا يتواضعون لمن هم دون منهم كما يتواضعوا لمن هم أعلى منهم.

ومن بين قصص احترام السلف للمعلم، احترام الإمام الشافعي رحمه الله لمعلمه الإمام مالك رحمه الله، فكان الشافعي يحضر دروس الإمام مالك ولازمه طوال حياته، وكان الشافعي في أول حياته فقير ولم يكن يملك محبرة ولا أوراق فكان الشافعي يضع إصبعه في ريقه ويكتب به على يده اليسرى، فلما رآه مالك شعر أنه يهزأ بالدرس فطرده، وفي تلك الأثناء أتى رجل للإمام مالك ليفته، فقد قال لزوجته أنت طالق إن لم تكوني أحلى من القمر، فقال له مالك هي طالق.

فلما خرج الرجل قابله الشافعي، وسأله عن حديثه مع الإمام مالك، فأخبره الرجل، فقال له الشافعي لكن امرأتك أحلى من القمر، فسأله الرجل عن ذلك فقال له قول الله عز وجل” لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم”، فقال له الرجل إذن نعود للإمام مالك.

فلما دخلا للإمام قال له الرجل هذا الرجل يقول أنك أخطأت، فرد الشافعي يا شيخي لم أقل ذلك، بل قلت كذا وكذا، فقال الإمام مالك أصاب الشافعي وأخطأ مالك.

وشعر الإمام مالك أنه أخطأ حين طرد تلميذه دون أن يتبين حقيقة عمله، فسأله عما كان يفعل، فأخبره أنه كان يكتب ما يقول لأنه لا يملك أوراق، فقال له مالك اقرأ ما كتب، فأعاد الشافعي كل ما قاله مالك في الدرس، وتدور الأيام ويحضر الإمام مالك درسًا لتلميذه النجيب، كان مالك يجلس بجوار عمود فكتب عليه” من أراد العلم النفيس فعليه بمحمد بن إدريس”.

فلما قرأ الشافعي ماكتبه أستاذه، ذهب وكتب أسفله ” كيف وهو تلميذ نعلك يا مالك”، وهكذا كان الشافعي يوقر شيخه ومعلمه طوال حياته، وهكذا يكون تواضع العلماء والتلاميذ النجباء وأخلاقهم.

وأيضًا من قصص السلف التي يمكن أن توضح كيف كان السلف يحترمون أهل العلم، قصص الخلفاء مع أهل العلم، من تلك القصص ما روى من أن عطاء بن أبي رباح كان عبدًا أسود، وكان من فقهاء التابعين وأخذ الحديث عن السيدة عائشة رضي الله عنها وأم سلمة وأبي هريرة وابن عباس وغيرهم.

وكان عطاء يصلي فأتى أمير المؤمنين سليمان بن عبدالملك، ومعه ابناه وصلوا خلفه، ولما انتهت الصلاة جلس أمير المؤمنين وابنيه ليسألوه عن الحج ومناسك، فأخذ يجيبهم وهو محول وجهه عنهم، فلما انتهى سليمان قال لابناه، يا بني لا تبيا في طلب العلم، أي لا تتكاسلا فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود، ولم يكن حديث سليمان احتقارًا لعطاء لكن تشجيع لأبنائه لأنه كان يعرف أن العلم يرفع قيمة أصحابه، وأن العلماء والمعلمين يجب أن يذل بين أيديهم العامة.

ومن قصص احترام السلف للعلماء أيضًا حب الناس لعبدالله بن المبارك، وهو العالم والفقيه وكان الناس حين مر بن المبارك يسير الناس خلفه حتى يرتفع الغبار، وكانت أم ولد لأمير المؤمنين هارون الرشيد قد رأت بن المبارك والناس حوله فسألت عنه فقالوا لها أنه عالم من أهل خراسان، فقالت هذا والله الملك لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بشرط.

وكان بن المبارك أيضًا قد درس على يد حماد بن زيد، وفي يوم حضر بن المبارك مجلس فيه حماد بن زيد، فطلب الناس من حماد أن يطلبوا من بن المبارك أن يحدثهم، فقال له كيف أحدث في مجلس أنت فيه، فأقسم عليه بن حماد أن يحدث الناس، فقام وقال لهم حدثنا أبو إسماعيل حماد بن زيد، ولم يتحدث في هذا المجلس بحديث إلا عن حماد بن زيد.

ومن قصص السلف الصالح في احترام المعلم قصة الشيخ إبراهيم بن الحربي وهو كان عالم من علماء الحديث وقد تتلمذ على يد الإمام أحمد بن حنبل، وفي يوم بلغه أن بعض التلاميذ يفضلون حضور مجلسه على مجلس الإمام أحمد، فلما سألهم قالوا له نعم، فقال لهم ظلمتموني بتفضيلكم لي على رجل لا أشبهه، ولا ألحق به في أي حال من أحواله، ولا تاتوني بعد يومكم هذا، فلن أسمعكم شيئًا من العلم بدًا، فهذا العالم الجليل بالرغم من أنه وصل لمنزلة من العلم جعلت له تلاميذ ومريدين يسعون للتتلمذ على يديه إلا أنه لم يتكبر يومًا على أستاذه ومعلمه، ولم يساوي نفسه به.

وقد قال عمر بن العزيز مرة لأصحابه خذوا من الرأي من يوافق من قبلكم فإنهم كانوا أعلم منكم، فأما ما خالف عمل أهل المدينة من الحديث فهذا كان مالك يرى الأخذ بعمل أهل المدينة.

By Lars