باردة ثقيلة هي الليلة ، دقات الساعات تحملها رياح الليل ، كأصوات أشباح تعيث في السكون فسادًا ، نظرت إلى الساعة المعلقة أعلى الجدار ، كان صوت عقاربها يمزق حبال صبرها ويبدد سكونها ، التفتت إلى المائدة وهي تزدهي بالشموع الأربع وما أعدته من طعام وشراب لهذه الأمسية !
الساعة اللعينة :
تساءلت : سيأتي ؟ لقد أكد لي مجيئه ؟ إن عقارب الساعة تنطق بطريقة رومانسية ، لقد تأخر .. قد لا يأتي ، ترى عقاربها تبتسم بسخرية ، تلعنها ، تتمنى لو تحطمها ، لكنها أضعف من ذلك ، الساعة اللعينة هديته لها في عيد ميلادها .
لن يأتي :
عواء الكلاب ، وعويل الرياح يذكرانها بالموت الذي تخشاه ، مازالت تتذكر حينما توفيت أختها في حادث سيارة ، لزمت الفراش وهي لا تعي ، وعندما استردت وعيها كان المأتم قد انتهى والعويل قد صمت ، الكلاب صمتت أيضًا ، الساعة مازالت تسخر منها .. لن يأتي !
الهدايا :
تجاهلت سخريتها ونظرت إلى المرآة ، مازالت فاتنة الجمال ، ثوبها هذا هديته أيضًا ، اختاره بلون البحر ، أزرق وهو يكشف عن عري كتفيها وذراعيها ، وهذا العقد الذي يعانق جيدها ويزين صدرها ، كنجمة تتلألأ وسط ضباب الفجر هديته أيضًا ، وشعرها الذي تركته ينسدل كشلال من الليل فوق كتفيها ، هكذا يريدها : ساحرة ، رائعة ، فاتنة .
أنه آت :
عواء الكلاب يمزق الصمت والسكون من جديد ، ويوقظها من أحلام ذكريات مضت ، التفتت إلى الساعة مرة أخرى ، كانت تقهقه : لقد أخبرتك أنه لن يأتي ، فصرخت بها : كاذبة ، كاذبة أنه آت ، إنه آت .
مازال يحبني :
استدارت صوب الشموع اللاتي ذبن قليلاً ، لكنهن سئمن الانتظار ، الانتظار كمصاص دماء يمتص هدوءها ويقتل بقايا أمانيها ، إحداهن بدأت تميل جانبًا ، كان النعاس قد بدأ يسرقها ، حدثت نفسها قائلة : لقد تغيرت كثيرًا ، لم يعد رقيقًا ، ولم يعد يأبه بشيء ، منذ أن تسلم منصبًا أكبر وهو يختلس من ساعاتي معه ، ليمنحها لعمله ، لقد أصبح مغرورًا ، لكنه مازال يحبني ، أنا واثقة .
مناصب أرقى وتساؤلات :
عواء الكلاب يستدرج ذاكرتها ، يذكرها بالموت والوحدة ، هل تخاف الموت ؟ هي لا تعلم ، لكنها تخاف الوحدة ، وتساءلت : لِم يتغير البشر حينما يصبحون في منصب أرقى وأعلى ؟ ما الذي يضاف إليهم ليتصرفوا كآلهة خالدة ؟
سيدة راقية :
نظرت إلى الساعة ، لم تكن تهزأ أو تسخر منها ، ربما أشفقت عليها ، وربما استسلمت للنعاس ، ألتفتت إلى الشموع : خشيت أن يغلبها النعاس هي الأخرى ، مازلن يقظات ، تقربت إليهن وهي تعلق بجانب خدها الأيسر ابتسامة صغيرة ، لم تفتر فيها عن أسنانها ، رددت وهي تدور حول نفسها : مظهري هذا كان يذكره بالبحر والطبيعة ، أما اليوم فانه يرضيه كسيدة راقية ، صمتت وهي تراقب احتضار الشموع ! آه ، أين تلك الأيام التي كنا نخلع فيها رداء الحضارة ، ونحيا مثل بربريين عند شواطئ البحر ، نشاكس أشعة الشمس ونهيم مع ضوء القمر فننسى قوانين البشر ، ونصبح جزءًا من قوانين الطبيعة !
من سيطفئ الشموع :
عواء الكلاب يشتد والريح تحمله اليها ، تشعر بأنامل الخوف تضغط على صدرها فتعقد ذراعيها حول نفسها : لقد أصبح بارداً ، باردًا ، أتراه مازال يحبني ؟ لا أعرف ، الأمور تختلط أمامي ، أيكون الحب كهذه الشموع ؟ يضيء ببهجة ثم يذوي بعد حين ، إنه عالم يتوقف عنده الزمن ليكون العالم الأوحد ، رنين الهاتف يقطع سلسلة أفكارها : آلو ..، …لماذا ؟ ورغم سماعها لصوت اغلاق الهاتف الآخر ، إلا أنها استمرت تتكلم : وشموع زواجنا الأربع من سيطفئها ؟
فلتطفئها الريح :
تركت سماعة الهاتف تنزلق من بين يديها ، وتتأرجح في الهواء ، وهي تشعر برغبة في التصدي للريح التي تضغط زجاج نافذتها ، وبرغبة أكبر في أن تشاركها العويل ، لن تخاف الوحدة ، ستتمرد كالريح وتسترد ذاتها ، إنها لا تريد أن تكون متاعًا في المنزل ، ولا تريد أن تكون ذكرى حب مضى ، فتحت نافذتها وهي تجيب سؤالها الصارخ : فلتطفئها الريح !.