الظلام يستحم برذاذ المطر ، وفي ركن منعزل في الحوش ، تقبع قطة شقية على ذيلها ، وفتاتنا العذراء المجنونة تغلق النافذة وتقتعد كرسيها الدوار العاطل من الدوران ، تنفجر الشحنة الكهربائية في كبد السماء ، فيهرع الظلام من حولها ، تراقب المشهد بإمعان واهتمام وتقهقه ملء شدقيها ينتشر الصوت الهستيري في أنحاء الغرفة ، يصطدم بالجدران المكسوة بالظلمة ، ويعود الصدى حاملاً مئات الوشوشات والهمسات غير المألوفة ، رأسها يقع على ساعديها ويسترخي ، جسدها يغور بين الظلماء صمت الدفين .
الأب والأسرة :
طفلة في ربيعها السادس تبكي عند عتبة الباب ، أبوها يعنف أمها ويقول لها : قلت لك ألف مرة لا تطلعين من البيت بغيابي ؟ ، الأب كثيف الشعر ، جهم المحيا ، مقطب الجبين ، يرتدي بنطالاً مرقعًا ، وكنزة مقطوعة ، يدب بخفة على الأرض : أحمد .. تعال . تعال يا ولد .
يخرج من غرفته ، فيستطرد الأب قائلاً : لماذا لم تذهب لعملك اليوم ؟ أجابه بكثير من التردد : اشتر لي محلاً ، قال الأب : تريد نهب شقاء عمري ياولد !ها أنا لم أشتر لنفسي ما تريد ، أم أنت أحسن من أبيك يا ابن حليمة ؟ ، قال الابن : الموت أفضل من المذلة يا أبي ، قال الأب : أية مذلة يا غبي ؟ ، أجاب الابن : مذلة نعمل عند من نقدر نوزنهم بأموالنا ، صاح الأب ودفعه خارج البيت قائلاً : لن تنام في بيتي بعد اليوم ، تصرخ الأم محاولة أن تعيد ابنها ، رفض الأب بشدة .
صمت الجدران :
غرفة صامتة ، تجلس بداخلها فتاة في العشرين من عمرها ، وأخرى على مشارف السابعة عشر ربيعًا ، الأم مطلقة ، الأخ مشرد في دمشق ، قالت الأخت الكبري : لم يحصل لنا كل هذا يا أختي ؟ ، ان أبانا لا يفقه شيء عن الأبوة غر أنه تسبب ذات يوم في انجابنا ! تقول الكبرى هذه الجملة ، ثم تنصرف الي فراشها ، وتستسلم الصغرى لنوم عميق ، ، تنقلب الكبرى يمنة ويسرة ، تدندن كمن في حداد ، أين مواطنك يا نوم ؟ أغلب رموشي المتعبة بحق صفاء هذا السكون ، استحلفك بشيب أمي ، وبتجاعيد جبهة أبي وبدموع المعذبات في الزوايا الرطبة ، وبغناء البلابل في الصباحيات الربيعية ، أن تنقذني من هذا العذاب ولو لساعة واحدة .
الشقيقتان :
بعد قليل سيجيء عمر ويخطفني ، قالت : ولكنك الصغرى ، أجابتها بلا مبالاة : ولو ، قالت : أبوك سيذبحك إذا أقدمت على ذلك ، أجابت الصغرى : لا تصدقي ، لا يذبحني ولا حتى في أحلامه ، ولا يجرؤ على ذلك ، قالت أختها الكبري : من أجلي .. أرجوك ؟ ، أجابتها الأخت الصغرى : سأتزوج خطيفة غصبًا عنه ، مادام قد رفض عمر دون أخذ مشورتي .
الهروب :
كل شيء يخرج من جلده ، لم يعد من تفضفض له عن مكنونات نفسها ، الساعة المعلقة في صدر الحائط تشير بإصبعها الطويل إلى السادسة وبالقصير إلى الواحدة ، تغرز أصابعها في ثنايا شعرها ، فتنجبس الدموع من عينيها المتورمتين ، يعصف بها الغضب يقشعر جسدها ، وتنهض فورًا ، يستفيق الأب اثر سماع خبطة الباب ، يحمل عصاه ويركض خلفها في الشوارع المعتمة ، ابنة الحرام جنت وتريد أن تجنني !
فرح :
بجنون تتراقص في عرس مجاور ، عازف الطنبور وإلى جانبه عازف الدربكة ، يقبعان وسط دائرة واسعة من الرجال والنساء ، تهرول نحو المغني ، الجميع يصفق ، يبتسم لها المغني ، أحد الشبان يقف بجوارها ، يرفع فوهة مسدسه إلى السماء ، يطلق تسع رصاصات في الهواء ، ويحلو الرقص ، تتجاذب العذارى والشباب ، ومن خلف رأسها تقف احدى الفتيات ، وتطلق زغرددة مطولة ، تتحمس للفكرة وتطلق واحدة فاشلة ، فتعلو شفاه الحضور ضحكة خفيفة موحدة سرعان ما تتلاشي حين سماع صوت خشن يتناهى في بداية الشارع .
العقاب المنتظر :
لما وقع بصرها عليه ، قررت أن تستأنف الرقص بصخب أعظم ، قال أحد الحضور بصوت شبه مسموع : لابد أن تقع مشكلة بين وحيد وابنته الليلة ، انه آت بخطأ وثيدة ، وهي ترقص لا مبالية .. صاحب العرس يهرول ، ففيبعدها عن الساحة ، وهنا يستلمها الأب ، ويدفعها بسرعة إلى باب الدار : لقد أعذر من أنذر ، تدلف إلى غرفتها ، ويحضر الأب عصاه ، بعد قليل سوف تطلع حافية القدمين ، وترفعهما في وجهه .. ظل ينتظر خروجها من الغرفة ، وينتظر وينتظر .
عذراء مجنونة :
وتستلبث على غير عادتها تمامًا ، يرفع قدمه ويصفع الباب ، لا فائدة ، يخبط بعصاه على الحائط ، يصرخ : افتحي ، وإلا كسرت الباب .. قليلًا قليلًا ، ينفتح الباب وتتراءى أمامه عارية تمامًا .
يصرخ منادي لزوجته : ألبسي ابنتك ثوبًا يا حلمة ، تقول الابنة بزهو : هذا جسدي كله أمامك ، لم أعد أخشاك ، ولم تعد تخيفني ، ثم أردفت : هيا اضرب ، يتلعثم ويقول : لست ابنتي ، تلسعه بنظرة مخيفة كأنها الأفعوان .. يلهث ينادي على زوجته ، حليمة ، ثياب ، خيانة ، أبوها ، يرتعد بقوة وفجأة يرتمي على الأرض دون حراك ..