من الزنزانة يا حبيبي ينفجر ألمي يصرخ صوتي وعرقي يتصبب شعلة الغيظ تحتقن في داخلى حتى أحس طعم النار في فمي ويدي ، فأستل الورقة والقلم وأكتب لك ، من هذا المطار وغيره من المطارات العربية التي أصبحت كالفواصل السوداء ما بين بلد وآخر ، ما بين قلب وقلب عقل وعقل ما بين الدم والدم .
هكذا يا حبيبي تتمزق الوطن الكبير ونصبت حدوده مشانق للحنين المشتعل في الأعماق حنين الأهل للأهل الأصدقاء للأصدقاء الأحبة للأحباب ، وأنتظر جواز سفري المعتقل أتسلى وأرفه عن النفس الحزينة وأكتب لك وخط طولى يشقني .
هل جربت هذا الخط يا حبيبي ؟ ، إنه يفصلك دون أن تنفصل ، يشقك دون أن تنشق وترتاح في العذاب خط من النار لا تستطيع أن تستفرغه وتخلى منه معدتك وتستعذب الخواء من بعده ولا أن ينحدر فيخرج مغادرًا ويريحك حتى لو قرح المكان الذي يخرج منه.
هل جربت هذا يا حبيبي ؟ ، هل أحسست بخط النار يلتهمك من الداخل ويشويك فيتآكل لحمك الطري ويجف دمك الغزير بينما هو رابض لا يتزحزح وأن تقاوم لكنك أبدا لا تيأس وأنت تذوب لكنك أبدا لا تنكمش ثم تموت وأن تحزن لكنك أبدًا أبدًا لا تبكي .
هو ذا ما أعانيه اللحظة الخط الطولى يسكننى أحقد عليه فلا يثور لكرامته ويغادرنى فأظل منشقة من الداخل لكن نفسي يلتقيان هما في الرأس أفكر وأتساءل وأكتب لك ، أكوام البشر وجوه عفرها السفر أطفال تبكي أطفال تلهو وتخرب وأشياء تنسكب من حقائب اليد وأخرى تنكسر هدايا من كل الأصناف يحملها الأحباب للأحباب .
المكان ضيق لكن قلبي ساحة تحملك بداخلها حباً وشوقاً وأملاً في اللقاء ، يندس الأطفال بين الكبار ويثيرون الضيق ولكنهم أبرياء ابتسامة واحدة منهم تجعل العمر ليلة عرس ، والطابور بطيء طابور هنا لأهل البلد وطابور آخر لغيرهم الدم واحد لكن الطابور لن يصبح واحداً أبداً في الحدود العربية .
طابور ثالث للأجانب يخلوا إلا من اثنين واحد اشتهيت لو كان لابنتي لون عينيه أما الثاني فكان عجوزاً كريهاً ذكرني بمدير المدرسة التي تركت فيها ولدي ذات مرة في بلاد الضباب فصاح : هذا مستر وولف إنه يخيفني .
ملل ملل ووقوف يؤزم الساقين وتأفف خافت كلهاث الفئران داخل الجحور ينبعث من شفاه الوقوف لكنه لا يعلن معنى ولا يجرؤا أن يرتفع فقد يصادر في صدر صاحبه إلى الأبد ، العيون تتطلع بتوسل إلى الضابط المرتاح على كرسيه يقلب أحد جوازات السفر يزحف الطابور خطوة أزحف ، وأنت في القلب نبضة تتحرك وفي العين وهج جميل يشع يغرد رغم الضيق والضجر يزحفون وأزحف وجهى الآن أمام وجه الضابط المزموم كل شيء في وجهه ملعون بالنفور وجه ساخط مقيت جعلنى أشفق على أهل بيته .
مددت يدى فتسلم جواز السفر وهو ممتعض ، فتح الجواز نظر لوجهى ليتأكد بأن التي تقف أمامه هي صاحبة الصورة الملصقة في الجواز ، ثم ركز على عيني المتوهجتين بصورة وجهك الذي تركته في مطار مشابه ورحلت .
وشعرت بأنه يحسدني على هذا الفرح الذي ينغرس في عيني كالنبتة دائمة الخضرة وهو محروم من هذا النبت ، أسمك ؟ ، قرأ اسمى وسأل : نظرت إليه بإشفاق مسكين هم علموه أن يكون صلفاً عدائياً حتى لنفسه فظاً عديم الذوق وبكل الذوق نطق باسمي فأحب هذا الاسم فجأة وكأنه قد صدر من ثغرك الذي أشتاق اللحظة أقول اسمى ارفقه بابتسامة تمنيتها ترطب نظرته فترطب وجهه كله ويبتسم ، ولكنه لم يفعل فأشفق ثانية على أهل بيته وأتساءل ؟
كيف يطيق كآبته هذه وإلى متى يدخل بيته بها أم يرفسها يحنق قبل أن تمتد قدمه بخطوتها الأولى ، وتلامس عتبة البيت هل يدخل فرحاً يحضن زوجته ويقبل أولاده ، أم تراه يدخل ليرتمى حزيناً ويبكى نازفًا آلام النهار متوسلا لزوجته : أرجوك الحقيني بحبة من الأسبرين أو بشيء آخر .
شيء آخر قد ينسيه أنه تبرأ من إنسانيته حين تعامل مع القادمين والمغادرين ويعذبني تصوري أنه ربما ينسى كل الوجوه التي كشر لها ، وكل الأسماء التي راقبها وكل الإنسانية التي حقد عليها .
هل حقا ينسى كل هذا ويريح رأسه على ذراعه الممدودة وفي لحظه يكون صوت نومه موزعاً في أنحاء الغرفة مما يجعل زوجته تحمل لحافها ، وترحل ولا تنسى أن تغلق عليه الباب مخافة أن يتعدى صوته وهو نائم الغرفة إلى غيرها وينام هادئًا وحيدًا إذن هم أمروه فعودوه فطوعوه فسلخوه عن وجدانه ونفسه فهل تأتيه لحظة الوعى ويستفيق ؟
رفع الجواز تصورت أنه سيرده لي فمددت يدي لكنه تدارك وسحبه قائلًا : انتظري هناك قليلًا ، سألته : هل في الأمر سوء لا سمح الله ، امتعض ركل امتعاضه كلمات : افسحي الطريق لغيرك ابتعدى هناك وانتظري ونفخ .
لم أدري لماذا لكنني رأيت عينيه الجافتين تقعان على يدي التي انسحبت خائبة دون جواز سفري وكانت مزينة بالأساور والخواتم نفخ وكانت نفخة غيظ وحسد وألم نفخ وتمنيته لو لم يفعل تمنيت لو واتته الشجاعة ليقف ويصرخ في وجهي : انتم تمتلئون بالذهب ونحن هنا في هذا المأزق الوظيفي نجوع ونحظى بالهيبة حين نثير الرعب ونقول للناس : انتبهوا هنا الحكومة لكنه لم يصرخ ولم يفعل شيئا سوى النفخة ياللجمرة .
وصارت الأساور جمرة صار وجه الدنيا أسود وصار الطريق شوكاً والغمامة البيضاء الناصعة صارت جناح غراب وصار الفرح الذي في عيني حزنًا ودموعاً ، لم لا يتحول هذا الذهب إلى خبز وماء لم لا يتحول فرحًا وسلامًا وابتسامًا يزين الوجوه التي دفنوها بالخوف والسطوة .
في لحظة تمنيت لو أعود إليه إلى صدر ذلك الضابط المملوء بالحقد وبالغيظ وأبكى مؤكدة له أنى أشترى تعاسته بكل هذه الأساور فقط ليبتسم ويرتاح ويثور على هذه الفواصل ويصرخ بأعلى صوته : نحن أمة واحدة فلتتكسر كل الحواجز افتحوا لنا الطريق وزفوا الناس المنتظرة على وجوههم خيبات الأمل أمسكوا بأيدي الأطفال قولوا لهم زمنكم سيشهد الوحدة والالتحام .
آه لو يفعل ، آه لو تتحرك الجمرة ويثور عندها سوف يبرد هذا الخط الطولى وسوف تهمد النار المشتعلة وتبنى أجسادنا في الداخل تنمو نموًا سليماً لا اعوجاج فيها ولا تشوهات لكن لم يفعل وأبدًا هو لن يفعل هناك سيف يلمع وهناك موت حتمي .
ظل يمارس سيادته على كل الوجوه وكل الأسماء والطابور الطويل دودة ذابلة والأطفال تنام على صدور الأمهات وكثير منهم افترش أرض المطار التي كانت باردة كالثلج ، أنت في عيني تتحول نعاسًا عذبًا والخط الطولى لا يزال يحرث في داخلي ويمزق شرايينى .
أسمع اسمي اخيرًا وأنت كالومض تلمع في عيني وكالسحر يطيرني فأهرع إلى شباك الضابط استلم جواز السفر وكالعصفور أطير ابحث بين الأكوام المتراصة عن حقيبتي وأتمنى لو فرغت من أثقالها لأشحن نفسي بها وأعود ثانية من حيث أتيت .