زاهر ظافر اسماعيل بيك الجبلي ، حفيد اسماعيل بيك من أعيان بغداد في فترة 1912م ، وخلفه ابنه ظاهر بيك ، ولكن زاهر بيك لم يكمل عهده كبيك ، ولم يتهن باللقب لأن الثورات التي جاءت وأكلت تاريج وأمجاد بشوات وأعيان بغداد ..
حياة زاهر:
بعد الملك فيصل الثاني حالت دون ذلك ، كان يجلس في مقهى الزهاوي في شارع رشيد ، يشرب الشاي ويهش الزباب عن وجهه ، وقد شارف على الخمسين من عمره ولن يتزوج بعد ، الملكية الوحيدة التي بقيت له هو منزله في الأعظمية قرب المقبرة الملكية .
فها هو بعد أن خسر كل شيء في القمار ، يتذكر أيام العز وعهد البشاوات وذكريات العزائم والولائم في القصور والسرايات ، ويتحسر على ما فاته من سنين ، فأين هم الأعيان والناس من حوله قد انفضوا بعد أن تأكدوا من افلاسه .. يا للعار ، ياليتني سقيتهم سماً بدلًا من العرق ، حيث كانت تأتيه الزجاجات من لندن وسويسرا ، وكانت باهظة الثمن .
مراجعة النفس :
ولكن المسألة الأكثر تعقيداً التي لم ترق له هي أنه مازال يقضي حياته أعزب ، فقد عاشر فنانات وراقصات ولكن حظه لم يحالفه في التعرف على بنت ذوات ، ذات أصل وفصل فكان يلوم نفسه فقد عاش في حياة قذرة .
فكيف له أن يختلط ببنات الذوات ، والمرأة التي شدت على اوتار رجولته وجعلته يخسر أملاكه هي لميعة المطربة والراقصة في ملهي الوردة الحمراء ، الواقع في شارع أبو نؤاس ، مازال يذكر كيف أهدى لها عقداً كلفه ثروة ضخمة ، في سهرة كان يأكلان فيها السمك العراقي المسكوف ، المشوي على الفحم ، مع زجاجة ويسكي راقية مستوردة .
الندم :
كلما تذمر ما أنفق من مال ، ضغط بيده على بطنه ضارباً كرشه ليسكت أصوات المعدة التي تتصارع مع بعضها وتتضور جوعاً ، عليه أن يأكل كسرة خبز ولو يابسة فالجوع القاتل قد أذن بالهجوم عليه ولايملك سوى ، عشرة نقود ، تكفيه ثمن قدح ممن الشاي ومن بعدها سيقرأ السلام على يومه .
زاهر وعمه :
يجب عليه أن يتحمل العناء حتى الغد ، لأن عمه الغني سيعطيه راتبه الشهري صباحاً ، علاقته مع عمه عبدالرضا باشا جيدة جداً ، وعمه محام في شارع الرشيد وكلما عرض على زاهر بيك العمل كان الأخير يقول باستنكار : ابن البيكات وحفيد الباشوات لم يخلقوا للعمل بل فقط يأمروا ويأكلوا .
ورغم ذلك عمه لم يطرده حتى لم يزجره يوماً ، فزاهر رغم تكبره فذرة الرحمة مازالت مزروعة في قلبه ، وقد أنقذ عمه عدة مرات من غيبوبة السكر ونقله في أنصاف الليالي إلى المستشفي وسهر معه في حين كانت عائلة عمه في لندن لحضور حفل زفاف أحد الأقرباء .
زاهر وأبناء عمه :
أما أبناء عبدالرضا بيك فلا يقلون ثقافة عن والدهم ، ويعتبرون زاهر بيك أخاً لهم ، ولولاهم لباع منزله مع أملاكه التي ضاعت هباءً ، وكان الآن متسكعاً في شوارع بغداد ، دفع زاهر بيك العشرة نقود ثم تمشى قليلاً ، لينسى جوعه وكان الجو برد مائل الى الرقه وقد شاعت فيه رقة الربيع ، كانت فكرة أن يلتقي بامرأة يحبها مازالت تكبر في رأسه وتتردد في قلبه ولكن أعياه الجهد والتفكير .
جوع ولقاء :
ثم فجأة لاحت أمام عينه عربة مأكولات جوالة وكانت رائحة الأطعمة الشهية كافية بقطع سلسلة أفكاره كلها ، ولم يمنع نفسه الجائعة من رائحة الاكل المنبعثة بدون رحمة ، حتى صادف ما لم يكت في حساباته ، زميله وصديق الطفولة ، صفوت حكمت القاضي ، كان يقصد عربة المأكولات أثناء راحته من فترة عمله كصحفي في الجريدة المحلية ، بالإضافة إلى أنه ناشط سياسي كوالده الذي اعدمه الانجليز في معركة الفلوجة آنذاك .
وها هو يأكل بشراسة ناسياً تعبه وضغط العمل ، فكر زاهر بيك ملياً ظان يباغت صفوت القاضي بطريقة وكأنها صدفة ويسلم على صديق عمره ، وفي نفس الوقت فصفوت كريم كعادته وسيعزم زاهر بيك على الغذاء ، وهذا الشيء المؤكد ، ولكن عليه أن يكون أستاذاً في ظهوره أمام صفوت بطريقة تدل على الصدفة ، وبذلك ضرب عصفورين بحجر واحد .
زاهر وصفوت :
وما ان باغت صفوت حتى تصافحا بحرارة وبدأ بينهما عبارات الشتم ، مزحة اعتادوها أيام زمان ، ثم يتردد صفوت في طلب رز مع اللحم لزاهر بيك ، تظاهر زاهر بعزة النفس ، ولكن سرعان ما قبل الدعوة متحججاً بأنه من أجل صديق عمره ، الذي لم أره منذ أمد طويل وسيرد الدعوة لصفوت آجلاً أم عاجلاً.
اجتمعا على طبقتين على عربة المأكولات ثم تبادلا أطراف الحديث الذي شمل سياسه واقتصاد وأحاديث اجتماعيه وكان الاثنان بارعان في تلك المواضيع المهمة بلا ريب ، سأله صفوت القاضي عن عمل زاهر بيك فقال : لدى شركة استيراد وتصدير ولكن لسوء الحظ والأوضاع وثورة 1968م الأخيرة أثرت على الشركة .
ما اسمها ؟ كانت مفاجأة لزاهر بيك ، ولكنه سرعان ما أجاب : السحاب .. ثم أكمل شركة السحاب .. السحاب !!؟.. تساءل صفوت القاضي ، ثم أكمل لم أسمع بها لأنني غالبًا ما التقي بأصحاب الشركات ، وأعرف أسماء أكثر الشركات ليس في بغداد وحسب بل كل أنحاء العراق .
صفوت والفضول :
امتعض زاهر بيك كثيراً من فضول صديقه ، ثم جعل يصطنع بأن رائحة الأكل الطيبة ، أثر على نفسه فرفع الطبق إلى أنفه ، فحمل الهواء على أنفه ، رائحة الطبخ ، ثم قال : طبخ هذا الرجل طيب جداً ..
وبعد حديث استغرق أكثر من ساعة اتفق الاثنان ان يلتقيا في نهاية هذا الأسبوع ، ولم يكن زاهر بيك يود أن يجلس مع صاحبه كثيراً ، إلا أنه أكل ما أكل وأشبع بطنه .
زاهر والحسناء :
تحول عن صاحبه ، وسار الى حال سبيله ثم عثرت عيناه المتجولتان على حسناء مقبلة ، ترفل في ثوب رقيق شفاف ، وجذبت خطواتها انتباه زاهر فأتعست عيناه أكثر وأصابته الدهشة وهاله المنظر ..
وكانت تقترب خطوة بخطوة ، فهو الآن شبعان وعقله المجنون يفكر بسرعة خيالية في اقتناص الحسناوات لإشباع غريزته ، فخطر له أن يغمز لهذه الحسناء الشاردة ، ثم قفز وقال في نفسه : اليوم قد شبعت فلنحاول مع هذه الجميلة ، وغداً ، عماه ، والراتب الشهري .