فزع أهل القرية وأخذوا يتناقلون الأخبار عن الحادث الأليم الذي وقع ليلة أمس ، فقد وجد أهل القرية جثتين لرجل وامرأة مقتولين ، بعد البحث عنهما تبين أنهما من أغنياء المدينة المجاورة ، ولم يمضى على زواجهما سوى عام بعد أن ترملت السيدة من زوجها الأول ، بعد بحث دام أسابيع لم يتم التوصل إلى القاتل .
وفي أحد الأيام دخل إلى مكتب قاضي التحقيق شاب ثلاثيني ، وقد كان يعمل نجارًا وعُرف بين أهل بأمانته وحسن خلقه حتى أنهم أطلقوا عليه اسم الراهب ، وقف الشاب أمام القاضي وقال له سيدي القاضي إنني القاتل الذي تبحث عنه فأنظر ماذا تأمر ، دهش القاضي وسأله هل كنت تعرفهما ؟ .
أجاب الشاب أنه كان يعرف الرجل منذ سنتين ، أما المرأة فقد عرفها منذ ستة أشهر فقط ، ولما سأله القاضي عن سبب الجريمة قال أن نفسه سولت له ، كان الشاب قد تم إحضاره إلى القرية وهو رضيع وتم تركه في رعاية إحدى المرضعات بالقرية .
ولم يعرف من هم أهله ، مثل الشاب أمام القاضي في قفص الاتهام ، وحاول محاميه الدفع بجنونه حتى ينقذه من ورطته ، حين أنهى المحامي مرافعته سأل القاضي الشاب هل يريد أن يقول شيئًا ، فوقف الشاب وقال بصوت جهوري : سيدي الرئيس حضرات المستشارين والمحلفين ، إني لا أرضى أن أُتُهم بالعته .
أريد أن أعترف بالحقيقة ، فأنا أفضل الموت في ظلال العز والشرف على حياة ملؤها الخزي والعار فأسمعوا مني ، إنني أيها القاضي ما إن فتحت عيناي على الدنيا حتى دفعتني أمي إلى إحدى مرضعات تلك القرية ، ثم امتنعت عن أداء أجر المرضعة ، فأخذت تلك المرضعة ترعاني وغمرتني بحنانهما الذي حرمتني منه أمي .
وحين دخلت إلى المدرسة كان أصدقائي ينعتونني باللقيط ، ولكنني كنت أعذرهم لأنهم لا يعرفون مقدار ما تنطوي عليه تلك الكلمة من معاني ، وقد كنت أشعر طوال حياتي أنني إنسان ناقص الشرف ، لقد كنت ضحية لخطيئة أبي وأمي ، وقد عشت مشردًا ذليلًا بدلًا من أن أنعم بعطفهما ، كما جرداني من شرفي وكرامتي .
وذات يوم منذ عامين دخل علي ذلك الرجل حانوتي وطلب مني أن أصنع له مائدتين ، ثم كرسي وكان دائمًا يعطيني ما أطلب دون أن يساومني ، وبعد مدة جاءني برفقة امرأة ، جلست داخل الحانوت وكان يبدو عليها الاضطراب ، وكنت كلما سألتها عما أصنع لها أجابت نعم ولا تزيد .
وبعد عدة أيام عادت مجددًا ، وأخذت تسألني عن طفولتي ووالدي ، فرجوتها ألا تفعل لأنهما أجرما في حقي ، وما إن سمعت كلامي حتى سقطت على الكرسي مغشيًا عليها ، ولما أفاقت أخذها زوجها وأنصرف .
أخذت أفكر في تصرفهما فأيقنت أنهما والدي ، وفي أحد الأيام عادا مجددًا ، وقبل مغادرتهما قالت المرأة أنها تتمنى لي التوفيق وقدمت إلي بعض المال ودون أن أشعر صرخت أمي ، أنت أمي !
فارتاعت وهربت وسحبها زوجها من يدها وهم بالخروج ، ولكني أسرعت إلى الباب وأغلقته ، ثم التفت إليه وقلت هل تنكر أنها أمي ، إن حالتها وهي تبكي اكبر برهان على أنها أمي ، فصاح في وجهي وقال لي اسكت حقًا إنك دنيء ، وخرجا من الباب ، وقد انقلبت عاطفتي نحوهما إلى كره .
خرجت إلى الشارع وأخذت أهيم على وجهي فلمحتهما ، فأسرعت نحوهما أسترق السمع ، فكانت أمي تبكي وتنتحب ، بينما كان أبي لقد قلت لك إن ما اقترفناه من إثم لا يسمح لنا أن نقدم على تتبع أثره ، فهرعت نحوهما وخاطبت أبي ، قلت له ألم أقل لك أنك أبي وهذه أمي ، فأراد أن يصفعني فأمسكت يده ، وطلبت منه أن يصفح عني إن كنت ارتكبت جرمًا لكنه أخرج مسدسه وأراد ضربي ، وعندئذ طار صوابي فأخرجت مديتي وأغمدتها في عنقه .
وأخذت أمي تستغيث ، وتستنجد صائحة في وجهي وتضربني فطعنتها في صدرها دون أن أعي ما أفعله ، وجلس المتهم وأخذ يمسح جبينه من العرق ، بينما كان الرئيس يشير إلى تأجيل النظر في القضية للجلسة القادمة .