لا شك أن عرض العمل الذي تلاقه من إحدى الشركات في مدينة دبي ، كان يعد نقلة نوعية في حياته ، فالراتب الذي سوف يتقاضاه ثلاث أضعاف الراتب الذي يتقاضاه في دولة الكويت من وظيفته الحاليه ، بالإضافة إلى شقة وسيارة ، وما يسهل عليه أمر الانتقال هو أنه شاب أعزب يعيش مع والديه في دولة الكويت ، فكان اقناع والديه بالانتقال سهل لأن باستطاعته زيارتهما مرتين في الشهر على أبعد تقدير .

مدينة دبي:
انتقل بالفعل الى دبي ، تلك المدينة الخلابة الجميلة التي تجعلك تحلم بحياة أفضل ، ومستقبل باهر ، لكنه لم يضع في حساباته شبح الوحدة الذي عانا منه في دبي بعيد عن أهله ، فقد كانت ساعات العمل تلتهم يومه بالكامل تقريبًا .

ثم عند عودته إلى المنزل يكون منهكا لا يقوى على الخروج أو الاستمتاع بما تبقى من اليوم في تلك المدينة الساحرة ، أنا عن أجازات آخر الأسبوع فقد كان يفعل مثل أي سائح يزور دبي ، يذهب إلى المتاجر الكبرى للتسوق والأماكن الترفيهية التي تزخر بها دبي ، وظلت حياته رتيبة على هذا النحو ولا ينسى خلالها ، زيارة أهله في دولة الكويت بين الحين والآخر ، حتى شاءت الظروف أن يلتقي بتلك السيدة .

اللقاء الأول :
كانت امرأة عجوز تبدو في السبعين من عمرها ، كان يشعر بداخله أن شكلها غريب لحد ما ولكنه لا يعلم ما وجه الغرابة فيها ، لكن وجهها كان يبدو غريب فحسب ، كان أول لقاء له بتلك العجوز في مصعد المجمع السكني الذي يقطنه ، حين عرض عليها حمل مشترياتها من المتجر القريب .

خاصة بعد أن علم منها أنها تقطن الشقة التي بجوار شقته فشكرته كثيرًا ، فلم يفته أن يلحظ تلك اللكنة الغريبة التي تتحدث بها ، لقد كانت لكنة عربية لكنها لم تكن كأي لكنة بلد عربي فسألها بفضول عن جنسيتها ، فردت عليه ببساطة أنها من تونس لكنها عاشت حوالي خمسين عامًا خارج موطنها تتنقل من بلد لآخر ، ثم في النهاية انتقلت إلى دبي لكي تقضي السنوات المتبقية من عمرها في استقرار .

فسألها بفضول غريب عن طبيعته الخجولة عن سبب سفرها وتنقلها في البلدان ، فردت بنفس البساطة أنها تهوى دراسة التاريخ وجمع الآثار من مختلف بلدان العالم ، حتى أنها جمعت آثار وتحف ولوحات فنية يعود تاريخها لمئات أعوام مضت من بلدان مختلفة.

كان هذا اللقاء الأول الذي فتح الباب للقاء ثاني وثالث بطيعة الحال ، إلا أن العلاقة ظلت مقتضبة على القاء التحية أثناء اللقاء في الصعود أو النزول من المبنى السكنى ، اذا تلاقيا بالصدفة ، وقد لفت انتباهه نشاطها الملحوظ رغم كبر عمرها ، حيث كانت لا تتواجد في شقتها إلا نادراً .

الزيارة:
كل ما مر به كان يعده مقدمة لما حدث معه ، فالبداية الحقيقية لما حدث معه هو عندما قامت بزيارته في شقته ، فقد رحب بها كثيرًا وسعد بزيارتها لأنها كانت مفاجأة بالفعل ، ثم بدأت بالحديث معلنة عن سبب زيارتها قائلة له : الواقع إنني أتيت اليك ، بعرض رائع لا يرفض ، وقبل أن ينطق أردفت قائلة : قبل أن أريك عرضي المفاجئ أريد منك أن ترى شيئًا أو لان لأنك ان لم تصدقني إن لم ترى أولًا ، هز رأسه لها على الموافقة على رؤية ما تريده .

الساعة:
حينها أخرجت من جيبها ساعة غريبة جدًا لم يرى مثلها من قبل ، وانتقلت وجلست بجانبه حتى أنها كادت أن تلتصق به ، وضغطت بعدها على أحد أزرار الساعة ، كان ينظر اليها باستغراب شديد فقد أحس لوهلة أن تلك المرأة ليست طبيعية ، ربما تكون مجنونة مثلًا ، ثم قالت له : هل لك أن تنظر من النافذة إلى الشارع الآن .

قال لها وهو مقتنع بينه وبين نفسه أنها مخبولة تمامًا : ولما تريدين مني النظر من النافذة ؟ ، قالت بحزم : لأنك سترى في الشارع شيئًا ، لم ولن ترى مثله في حياتك ، قام وهو متكاسلًا ومعتقدًا في جنون تلك المرأة ، ألقى نظرة على الشارع من نافذة شقته وكانت المفاجأة !!

نظر إليها بذهول ، هل هي مفاجأة أم أنه يحلم !! ، لقد خلت الشوارع فجأة من كل شيء ، نعم كل شيء ، لا يوجد مارة ولا سيارات في شوارع دبي ، المكتظة عادة ، كيف حدث هذا ، لا أثر لأي شكل من أشكال الحياة في تلك المدينة ، كيف ذلك !!

سر الساعة :
قطعت السيدة ذهوله قائلة له : أعلم أنك مصدوم ولا تصدق ما تراه ، وهو أمر طبيعي جدا ، لأن الانسان لا يتصور وجود قوة تعمل عكس إدراكه ، ولكني سأخبر بالسر : أترى تلك الساعة التي أرتديها ، إنها السبب وراء ذلك .

هذه الساعة الأثرية صنعت في الأزمان الغابرة ، لقد حصلت عليها بالصدفة البحتة ، أثناء زيارتها لأطلال حضارة المايا القديمة ، والتي بلغت من العلوم شأناً هائلاً ، يفجر كل علامات الاستفهام ،و كنت في البداية مبهورة لتلك الحضارة التي تمكنت بشكل سابق لعصرها من صناعة ساعة يد ، قبل أن تدرك أنها ليست مجرد ساعة عادية .

ثم سكتت فجأة وكأنها تسترجع ذكرى ما وأردفت قائلة : إنها كانت في البداية تعتقد إنها ساعة عادية حتى عبثت ذات مرة بزائرها ، فاكتشفت بشكل مفاجئ أنها ترى نفسها وحيدة تمامًا ، في المقهى التي كانت تجلس به ، حيث اختفي الجميع بشكل مفاجئ ، مما أثار فزعها ، فخرجت من المقهى مذهولة وقد خلت الشوارع من المارة تمامًا .

وشيئًا بشيئًا عرفت حقيقة الساعة ، إنها ساعة تجعلك متقدمًا عن الزمن الحالي لمدة دقيقة ، إنها تجعلك تسبق البشر جميعا بدقيقة واحدة فقط ، لذا لا ترى أحد في الشوارع ولا في أي مكان ، فالعالم كله يعيش بعدك بدقيقة ، إنها شبيهة بآلة زمن ، ولكنها ليست آلة زمن إذ لا تتيح لك رؤية مستقبل الناس بل تجعلك متقدمًا عنهم بدقيقة واحدة فقط ، وذكرت له أنها قصدت الجلوس بجواره ملتصقة به عن عمد ، لكي تجعله يتأثر بالساعة ، ويتقدم عن الزمن الحالي هو أيضا لمدة دقيقة .

ذهول وتردد :
ثم قاطعها بحده قائلًا : مهلًا مهلًا مهلًا ، أوقفها عن الكلام بحده شديدة ، فقد كان كل ما تقوله كثير جدًا ، قلب كل الموازين التي عرفها في حياته ، إنها أمور شبيهة بقصص الخيال العلمي التي لا يحبها كثيرًا ، إنها أمور غير حقيقية ، لكنه قد رأى بنفسه بالفعل ما حدث ، فما تفسير ذلك ، وقد بدا الذهول واضح عليه حتى أنه عجز عن التفكير ، ثم تمالك نفسه على قدر ما استطاع .

ثم سألها : كيف سيعود كل شيء على ما كان سابقاً ، قالت له بهدوء : بالضغط على زر الساعة ، مرة أخرى  ثم ضغطت على زر الساعة ، فهرول إلى النافذة وقد التقط أنفاسه عندما رأى الحياة تعود الي وضعها الطبيعي بالفعل .

العرض:
فالتفت إليها ونظر لها وسألها بذهول شديد : لماذا تخبريني بكل هذا ، ومن أنتٍ بالضبط ، قالت بهدوء : لقد عرفتك على نفسي في السابق ، أما عن أني أطلعتك على سر الساعة فهذا يعيدنا إلى العرض الذي قلته لك في البداية .

اننى أعرض عليك ستين مليون دولار ، ستأخذ نصفهم مقدمًا ، والنصف الآخر بعد تنفيذ ما سأطلبه منك ، نظر إليها غير مصدق المبلغ المالي بذهول ، إنه ثروة وسألها عن ماذا تريده أن يفعل ؟؟؟

تنهدت قليلًا ثم قالت : أريدك أن تذهب إلى متحف دبي ،  وتسرق منه بعض التحف الثمينة ، والمخطوطات النادرة ، وسأدلك على التحف والمخطوطات التي أريدك أن تسرقها تحديداً ، وستفعل كل هذا دون أن تخشى شيئًا على الاطلاق ، وستملك كل الوقت الذي تحتاجه ، لأنك سوف تستخدم الساعة ، إنها جريمة كاملة كما ترى.

الرفض والقبول:
وبالطبع قام رفض العرض في البداية ، رفض تماماً ، إنها سرقه وما كان ليسرق أبداً ، أو هذا ما ظنّه على الأقل ، لكن السيدة ظلت في شقته حتى الصباح ، تزين له الأمر وتحاول اغراءه بالمال ، وأن تلك السرقة لن تؤذي أحداً ، بل مجرد آثار لن يهتم بأمرها عامة الناس ، فوافق ، نعم وافق أخيرًا ، كان لا يتوقع أن يأتي يومًا ما ويسرق ، لن يتوقع ذلك نهائي ، لكن المبلغ المالي سوف يغير حياته تماماً ، سوف يصبح من أغنى أغنياء العالم .

الشك:
وفجأة تذكر شيئًا مهمًا ، ونظر إليها بشك متسائلاً : ولماذا لا تسرقين تلك التحف بنفسك ؟ فقالت مبتسمة : انني امرأة عجوز ، لا أقوى على حمل اللوحة والتحف الثقيلة بنفسي ، لذا أحتاج لمساعدتك ، فسألها بتحدي : ولماذا أنا بالذات ؟؟ ، فردت ببساطة شديدة : لأنني لا أعرف سواك في هذا البلد .

ثم سألها سؤلاً أخيرًا : وكيف ستبيعين تلك التحف ؟ ، فقالت بحسم : من قال أنني سأبيعها ، إنني أعشق التحف والآثار ، وأريد أن أجمع أكبر عدد منها ، الأموال لا تهمني ، فأنا ثرية كما أخبرتك ، حتى تلك الشقة التي أسكن فيها ، فهي إقامة مؤقتة حتى يتم الانتهاء من فيلتي الجديدة ، ثم أردفت قائلة : وماذا الآن ، هل ستقبل العرض ؟ ، أومأ برأسه موافقًا ، كان مثل المسحور تماماً ، ومفتون بهذا المبلغ المالي الهائل .

الثمن المقدم:
استأذنته حتى تحضر له من شقتها الأموال ، وبالفعل استغرقت دقيقتين ثم عادت حاملة حقيبة ثقيلة ذات عجلات ، وبالفعل كانت الحقيبة تحوى نص المبلغ ، ثلاثين مليون دولار .
سألها بدهشة : هل تحتفظين بمبلغ كهذا في شقتك ؟ ، قالت له : ولما لا ، فأنا أملك الكثير الذي لا أريد الافصاح عنه ، فأرجوك لا تسألني ، خارج موضوع الاتفاق .

المهمة:
أخذ منها الساعة ، ووافق على القيام بالمهمة فورًا ، وأخذ منها الساعة ، بالفعل أصر أن يقوم بالمهمة فورا ، فقد كان يرى أن المبلغ لابد أن كون بخوذته في أسرع وقت ، وأخذ منها الساعة ، متجها إلى المتحف ، في حين ظلت السيدة تنتظره في الشقة .

سرقة المتحف:
وصل المتحف في الساعة العاشرة صباحاً ، بعد أن قضي الليل بأكمله ساهراً يتحدث مع تلك السيدة ، أخرج الساعة وضغط على الزر فاختفي كل ما حوله تماماً ، كما حدث في المرة الماضية .

شعر برجفة قوية في جسده ، ليس الخوف والتوتر ، ولكن رجفة لا يعرف كيف يصفها ، هو يتذكر جيدًا المرة الأولي حينما ضغطت السيدة على زر الساعة ، انتابته نفس الرجفة ، ربما يكون ذلك نتيجة تغير الزمن حوله ، سار بهدوء مهيب ناحية بوابة المتحف ، وهو خالي تماماً مثل الشوارع ، وسط صمت رهيب ساد العالم ، صار ينتزع التحف التي أعطته السيدة أرقامها ووضعها في سلة كبيرة ، جمعهم فيها ، وكأنه يتسوق في متجر تجاري .

العودة :
وضع السلة في السيارة بكل سهوله ، وعاد للمنزل ، بعد مهمة لم تتجاوز ساعة واحدة فقط ، كانت السيدة العجوز بانتظاره ، أشرق وجهها عندما رأته ، وأخذت تقلب في التحف ، ثم قالت : هذا رائع والآن سوف أعطيك باقي المبلغ المتفق عليه الآن ، إنه موجود في شقتي.

دقائق معدودة وعادت بحقيبة أخري ، مليئة بالمال ، أخذ منها المال بلهفة ، ودون أن يشك في كونه مزيف ، فسيدة تملك ساعة كتلك لا تعجز عن تدبير أى مبلغ مالي ، وبعد أن خرجت السيدة من شقته ، ظل يتخيل الفيلا التي سيمتلكها في باريس ، والقصر الذي سوف يمتلكه في النمسا ، حتى غرق في سبات عميق وهو يحتضن حقيبة الأموال وكأنه يحتضن فتاة أحلامه .

الصدمة:
استيقظ من نومه أخيرًا عازمًا ، تقديم استقالته من العمل ، ومستعدا لبدء حياته الجديدة التي تخيلها ، فتفاجأ بمظروف عند باب شقته ، ولم يتخيل الرسالة تحوي مصيبة كتلك بل كارثة .

فقد كانت الرسالة من السيدة العجوز تقول فيها ; عزيزي ، سأخبرك بالحقيقة ، انني
زائرة من المستقبل ، من عام 4412م  ، نعم لقد عدت إلى الماضي ، إلى زمنك ومن أجل مهمة محددة ، لم أكن وحدي في تلك المهمة بل وسط فريق متكامل .

كل منا ذهب الى بلد من بلدان العالم ، ليحصل على تحف ولوحات أثرية معينة ، لكي نحمي تراث البشرية ، لأن العام سيباد بالكامل بعد شهر من الآن ، اذ سيصطدم ثقب أسود ، وهو إن كنت لا تعلم يحوي طاقة هائلة ستدمر الأرض تماماً ، وسيموت بسبب ذلك 99% من سكان الأرض ، بسبب قوة الارتطام والحرارة الهائلة بالأرض ، وسيموت الباقي نتيجة انتشار المرض ، وسيبقى بضعة مئات هؤلاء هم من سيقومون مرة أخرى ببناء الحضارة .

وسينجحون في ذلك بعد عدة قرون ، إذا سيقوم الجنس البشري ببناء حضارة جديدة مزدهرة ، إلى أن وصلنا في زمني حيث وصلنا لقمة التطور العلمي والحضاري ، وتجاوزنا كل المشاكل التي تعيشها في زمنك أنت ، وقد تمكن العلماء في زمني ، لاختراع آلة الزمن ، ولكننا لن نفكر في العودة للماضي لإنقاذ الجنس البشري من تلك الكارثة ، لأن العالم في زماننا يعيش أفضل حياة لا يمكنك تخيلها ، معدل الجريمة منخفض جدًا ، لا توجد حروب ولا مجاعات .

المستقبل:
لقد قرر العلماء في زماننا ، أن العالم في زمانكم هذا كان يحتاج إلى تلك الكارثة ، حتى يعى الانسان مسؤوليته تجاه أخيه الانسان وتجاه الأرض ، وبعد اختراع آلة الزمن ما كان من الصعب اختراع ساعة تقدم الزمن دقيقة ، لقد كان الهدف من اختراعها انقاذ تاريخ البشرية على الأقل مثل التحف والمخططات وغيرها من تاريخ البشرية.

والآن أنت تتساءل لماذا أرسلوا سيدة عجوز لتلك المهمة ، نعم إن حكماء الأرض قرروا ارسال أناس كبار في السن خشية إرسال شباب تفتنهم تلك الساعة فيمسكون في الماضي .

إن الفريق بأكمله كبار في السن ، والآن أنا أخبرتك بكل ذلك وأعرف أنك لا تستطيع ابلاغ المسئولين بقصة الثقب الأسود لكن أحداً لن يصدقك لأن دليلك الوحيد وهو الساعة قد أخذته منك .

سبب الرسالة:
والآن أنا أرسلت لك الرساله ، ليس لعدم حبي أن تستمتع بالشهر الذي ستعيشه ، بل لأنك شاب طيب ، فتستطيع بتلك الأموال بناء مكان وتملاه بالمؤن يكفيك للعيش سنوات أثناء حدوث الكارثة ، وعدم أخذي لك في المستقبل لأن ذلك ممنوع تماماً ، وقد اخترتك أنت بالذات صدفة لأن الوحيد الذي تلاقيته هنا .

بعد الرسالة:
شعر للحظة أن الأموال الهائلة التي بحوزته ، لا تساوي شيئًا على الاطلاق ، إلا اذا أخذ بنصيحة السيدة وانتقل الي مكان ينقذ فيه نفسه وعائلته فقط ، لقد شعر بإحباط شديد أن أحلامه كلها لا تساوي شيء ، وأن مستقبله قد ضاع بالفعل ، أما عن مستقبل البشرية ، فلا قلق عليه لأنه يتمثل فيها وهو بحال أفضل بكثير مما هو عليه الآن  .

By Lars