عمل السيد إدريس سنين طويلة في وزارة المالية ، ولما أحيل على المعاش قرر العودة إلى مدينته ، ليستقر بها ويمضي بها باقية سنين حياته ، كما قرر تولي الإشراف على مزرعة قد ورثها عن أبيه .

وكان يمضى الرجل أيام هادئة برفقة زوجته الحاجة زهور ، في منزل العائلة حيث كان منزلاً فسيحاً ، تدب في كل أرجائه الحركة ، وذات يوم وكان الشتاء قد زاد قسوة برودته ، وكان الحاج إدريس عائداً إلى منزله ، بعد أن أدى صلاة العصر في المسجد .

فاجئه شخص يبدو إنه أتى من مكان ليس ببعيد ، قد أوقفه وطلب منه أن يعطي له بطانية وأخبره أنه عاد إلى منزله ، فوجد كل ما كان لديه قد سرق ، فنظر إليه الحاج إدريس محاولاً ، أن يتبين ملامحه ولكن المتسول كان ينظر إلى الأرض .

فأدخل الحاج إدريس يده في جيبه ، وأخرج محفظة النقود الجلدية ، وأعطى الرجل مبلغ من المال ليشتري غطاء له ، يحميه من برد الشتاء ، ثم واصل الحاج طريقه واستدار بعد عدة خطوات فرآه يبتعد ، لم يسبق للحاج إدريس أنه صادف حالة مثل تلك ، منذ أن عاد ليستقر في مدينته ، ولهذا السبب شغل ذلك الحدث ، اهتمامه في ذلك المساء ، وعندما عاد للمنزل حكى للحاجة زهور ما صادفه .

ولم تعطي الحديث أي اهتمام ، فكانت مهتمة بأحداث حلقة جديدة من مسلسلها التليفزيوني المفضل ، ومرت عشرة أيام وإذ بالحاج إدريس يصادف ذلك الشخص ، للمرة الثانية ويبدو أن ذلك الشخص ، الذي يسير ناظراً للأرض مصراً على الحصول على بطانية .

لما وصل الحاج إدريس عنده ، أعاد على مسمعه ما قاله المرة الماضية من أنه عاد إلى سكنه ، ووجد ما فيه قد سرق وكانت الفرصة مواتية للحاج ، أن يسأله عن مكان سكنه ولكن ظل الرجل ساكتاً ، ولما رآه لا يجيب طلب منه أن يرفع وجهه ، ولكن الرجل أدار ظهره ومضى .

وكان تصرفه ذاك ما يجعل الحاج ادريس يشك في أمره ، فالرجل يطلب بطانية ولا يطلب طعاماً أو نقوداً لعله مجنون ، وعندما عاد الحاج لزوجته حكى لها مرة أخرى ما حدث ، وفي تلك المرة أصغت زوجته له باهتمام ، ورجحت كونه مجنون أو متشرد فضحك زوجها ، وأخبرها إنها لم تضيف إلى حيرته جديداً فضحكت ، وأخبرته أنه بالتأكيد رجل مجنون أو متشرد وبالطبع لن يكون آخيه القاسم الغائب منذ سنين بعيدة .

استوقفت تلك العبارة الحاج إدريس ، فلم يستوقفه ضحكات زوجته بظنها أنه رجل مجنون بل استوقفه سخريتها ، من زعمها بذلك بل أعادته تلك العبارة خمسة وثلاثين عاماً إلى الوراء ، عندما اختفى شقيقه قاسم في ظروف لم تكن واضحة .

حيث ابلغه ابن عمته عندما كان يعمل الحاج إدريس ، في وزارة المالية بأن أخاه ، لم يعود إلى المنزل ولم يتمكنوا من العثور عليه ، وهنا تسائل الحاج إدريس ، عن ما أذ كان ذلك المتشرد هو شقيقه قاسم .

ووفق تقديره إذا كان قاسم مازال على قيد الحياة ، سيكون عمره الخامسة والخمسين ويومها ، أبلغ زوجته أنه سيستأنف البحث عن شقيقه قاسم الغائب ، وخرج متحدياً البرد يبحث عن ذلك المتسول ، بل وراح يسأل معارفه عن ذلك الشخص ، الذي يبدو متشرداً ويطلب بطانية .

وذات مساء وفى يوم ممطراً ، وبينما كان الحاج إدريس في وسط المدينة ، التقى بأحد معارفه وكان يعمل إمامًا في إحدى المساجد ، ودار حديث حول المتشرد ووصف له هيئته وطريقة مشيته .

وقد فاجئه صاحبه بأنه يظن أن الأمر متعلق ، بذلك الذي ينادونه حبيب ولم يستبعد أن يكون الرجل قد غير اسمه ، حتى لا يعرفه أحد وأخبره الرجل مكان سكنه ، وانتقل الحاج إدريس إلى مكان سكن ذلك الرجل ، الذي دار حوله حديثه مع صديقه ولم يصحب معه زوجته .

وما ابن بلغ باب مسكنه حتى شعر بالخوف ، وكان السكن يبدو قديماً وكان الباب متهشماً ، فدخل المنزل وبدا له مهجوراً وخرباً ، فوجد ذلك الرجل ذو الملابس البالية ، جالساً في إحدى زوايا المنزل المتهشم ، مستلقياً على حصيرة بالية ، تقدم الحاد إدريس نحوه وامسك به ، ورفع رأسه لينظر في ملامحه للمرة الأولى ، وكانت نظرته الشاردة تشبه نظرة قاسم ، الذي أختفى منذ خمسة وثلاثين عاماً ، فسأله : أنت قاسم أليس كذلك ؟ .

ولكن الرجل لم يجيبه ، فعاد مرة أخرى ليكرر له السؤال بنبرة عالية ، فنهض الرجل وركض خارج مسكنه ، فأسرع الحاج إدريس محاولاً تتبعه ، حتى أمسك به وظل يتأمل وجهه ، بل وتذكر وجود وحمة في عنق أخيه القاسم ، وعندما حاول رفع رأس ذلك المتشرد وآذ به يرى تلك الوحمة عينها ، إنه قاسم فأسرع وقال له : أنت قاسم ، أنت أخي ، أنا إدريس .

وأسرع وضمنه عدة دقائق ، وأخبره أنه سيأخذه معه إلى منزله ، ولم يرد عليه ذلك الرجل سوى بابتسامة ، محت سنوات الغيبة والتشرد من ملامحه ، ولم يبوح قاسم بسر اختفائه حتى وفاة آخيه الحاج إدريس بعد عام من لقائهما .

By Lars