اسمي بدر ومكاني بين مكة والمدينة ، يقصدني المسافرون والرعاة من أجل الماء ، استيقظت يومًا لأجد الجزيرة العربية كلها تتحدث عني وعن المعركة التي شهدتها ، والتي حلمت اسمي في التاريخ منذ 17 رمضان ، من العام الثاني للهجرة النبوية الكريمة ، وقد أغضبت هذه الهجرة قريشًا ، وزاد من غضبها أنّ المهاجرين من مكة والأنصار من المدينة ، عاشوا إخوة أعزاء متحابين .
إخوة متحابين :
وإذا كان المهاجرون من مكة ، والأنصار بالمدينة قد عاشوا إخوة متحابين ، فإن المهاجرين قد ضايقهم أن تطول مدة وجودهم ضيوفًا على الأنصار في المدينة ، وأن يتركوا أموالهم وتجارتهم في مكة تحت يد قريش .
اشتباك بين المسلمين والكفار :
وقد سمعوا ذات يوم ، أنّ قافلة من تجارة قريش يقودها أبو سفيان ، قادمة من دمشق الشام إلى مكة ، فرأوا أن يتعرضوا لها ويأخذوا ما فيها ، تعويضًا لهم عما تركوه في مكة ، وعندما بلغ الخبر مكة ، اشتد غضب قريش على محمد وأصحابه ، خاصة وأن رسول الله بعث بجماعة من المسلمين ، إلى مكان بين مكة والطائف ، ليعرفوا أخبار قريش ، وفي هذا المكان التقى المسلمون ببعض الكفار ، وتقاتلوا معهم وأسر المسلمون اثنين وقتلوا الثالث .
انتظار أهل مكة للمسلمين :
لذلك رأى أهل مكة أن يخرجوا لقتال المسلمين ، وزحفوا : ألف مقاتل ، ومائة فرس ، غير الإبل ، ولم ينتظر المسلمون قدومهم إلى المدينة ، بل خرجوا لملاقاتهم ، ولم يكن عددهم يتجاوز ثلث عدد أعدائهم من قريش ، ولم يكن معهم سوى فرسين فقط .
بئر بدر :
وقبل أن يصل المسلمين إلى مكاني ، أنا بئر بدر ، رغب الرسول صلّ الله عليه وسلم ، في أن يعسكر برجاله في مكان بعيد عني ، ولكن واحدًا من الصحابة أشار عليه أن يعسكروا بقربي ، ليشرب المسلمون من مائي ، وليمنعوا المياه عن قريش ، واستجاب الرسول لهذه الفكرة ، وعسكر المسلمون من حولي ، وبنوا من فوقي حوضًا يشربون منه ، ويسقون إبلهم .
قريش وبئر بدر :
وأقبلت قريش بأسلحتها وخيلها الزاحفة ، وأدركت خطة المسلمين بحرمانهم من المياه ، وأقسم واحد من الكفار أن يشرب مني أو يهدم الحوض من فوقي ، فخرج إليه حمزة عم الرسول ، وضربه بسيفه ليريح منه .
المبارزة :
كان من تقاليد المعارك القديمة أن تبدأ بمبارزة فردية قبل أن يلتحم الجيشان ، خرج عتبة صاحب شجيرة العنب في الطائف ، وأخوه شيبة وابنه الوليد يسألون أصحاب محمد : هل من مبارز ؟
فخرج إليهم جماعة من المدينة ، فرفضوا لأنهم يريدون أن يقاتلوا بعضًا من أبناء مكة من المهاجرين ! فتقدم إليهم بعد حمزة ، علي بن أبي طالب ، وعبيدة بن الحارث ، وانتصر كل منهما كما انتصر حمزة ، فصرخ أبو جهل : اهجموا يا أهل مكة .
القتال :
وهكذا لم يبدأ المسلمون بالهجوم ، بل انتظروا هجوم عدوهم ، وثبتوا في أماكنهم ، وتعالى هتافهم وهم يندفعون إلى صفوف العدو : الله أكبر .. الله أكبر .. الله أكبر .. واشتد القتال ، فانزعج أبو بكر وهو يرى كثرة عدد الكفار ، وزيادة أسلحتهم ، وسأل الرسول صلّ الله عليه وسلم ، أن يدعو ربه ويطلب منه المعونة ، فارتفع صوت النبي صلّ الله عليه وسلم : يا حي يا قيوم .. يا حي يا قيوم .. يا حي يا قيوم .
النصر للمسلمين :
وبعد قليل قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وللمسلمين : أبشروا ان النصر للمسلمين ، وما أن أعلن الرسول ذلك ، حتى ارتفعت صيحات المسلمين ، وزاد اندفاعهم للقتال وهجومهم على عدوهم ، ومحمد يقود المعركة ، ويسأل أصحابه أن يستبسلوا ، ويذكروهم بوعد الله لهم النصر للأحياء ، وبالجنة للشهداء .
معركة بين الحق والباطل :
وألقى أحد المسلمين ببعض تمرات كانت في يده ، وقال : ليس بيني وبين الجنة إلا أن يقتلني هؤلاء ، وهجم على هؤلاء ، وشدد الهجوم ، واستقبل الموت في سبيل الله بقلب راض وإيمان عظيم ، في معركة بين ألف رجل من الكفار المسلحين ، فيهم مائة على ظهور الخيل ، وبين ثلث عددهم من رجال أقل سلاحًا وأقل خبرة في القتال ، كان السلاح والباطل في جانب ، والإيمان والشجاعة والحق في الجانب الآخر .
انتصار المسلمين في المعركة :
فأيهما ينتصر ؟ لو أن أحدًا شاهد المعركة ، كما شاهدتها ، أنا بئر بدر ، لأحس بالدهشة والذهول ، فإنّ قادة قريش وسادتها وأشجع رجالها ، قد بدءوا يتراجعون بعد أن مات منهم كثيرون ، بينهم أبو جهل ، واضطر الكفار لأن يتركوا أرض المعركة بالقرب مني ، بعد أن تركوا سبعين قتيلاً ، وعادوا إلى مكة بالجرحى والجنود المهزومين أمام محمد وأصحابه .
النصر المعجزة :
ورجع المسلمين إلى المدينة غانمين منتصرين ، بعد أن فقدوا عندي أربعة عشر شهيدًا ، أحياءً عند ربهم يرزقون ، وأسروا من الكفار سبعين رجلاً ، وكان هذا النصر معجزة من معجزات الله سبحانه وتعالى ، واستقبلت المدينة أبطالها المنتصرين بالفرحة الكبيرة ، وآمن الرسول صلّ الله عليه وسلّم كثيرون ، بعد أن أدركوا أنّ ما حدث عندي لا يمكن أن يكون إلا بمعونة الله ومساعدته .
شروط عودة الأسرى لديارهم :
وعامل المسلمون الأسرى معاملة طيبة ، وأراد هؤلاء الأسرى أن يعودوا إلى أهلهم على أن يدفعوا فدية مقابل إطلاق سراحهم ، ولكن كان من بين الأسرى من لا يملك نقودًا ليدفع الفدية ، فقال المسلمون لهم : تستطيعون أن تعودوا إلى أهلكم ، إذا علم كل واحد منكم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة !
معركة بدر في كتاب الله :
لقد كان انتصار المسلمون عندي ، أول نصر أحرزوه وأول خطوه على طريق من المعارك التي كتب عليهم أن يقاتلوا فيها .. وكان رائعًا أن يجيء ذكرى في القرآن الكريم : أنا البئر الصغير ، على الطريق بين مكة والمدينة ، والتي كان يقصدها الناس من أجل الماء فقط ، فإذا بي أصبح رمزًا لمعركة رائعة بين السلاح والباطل من جانب ، والإيمان والحق من جانب آخر ، فينتصر الحق وينهزم الباطل ، إن الباطل كان زهوقًا ، بسم الله الرحمن الرحيم (وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) صدق الله العظيم .