قصة الغريمة في أحد الصباحات ، توقفت الأمطار المشجية فجأة ،
وأطلت الشمس في سماء صافية صراح ، ذات زرقة بالغة ، وقد اغتسلت من أبخرة الشتاء الباهتة .
قصة الغريمة
نبذة عن المؤلف :
قصة من روائع الأدب السويسري ، للكاتبة ايزابيل ايبرهارت ، ولدت إيزابيل في 17فبراير عام 1877م ،
اهتمت إيزابيل باللغة التركية أولا قبل أن تتعلم وتتقن اللغة العربية
قامت ايزابيل بكتابة العديد من مؤلفاتها في منفاها وتعرفت هناك على جندي جزائري اسمه سليمان ،
وتزوجت به في 17 أكتوبر 1901 ، مما منحها الجنسية الفرنسية وحق الرجوع للجزائر ،
توفيت الكاتبة ايزابيل ايبرهارت في 21 أكتوبر عام 1904م ، في بيتها في منطقة عين الصفراء غرقا بسبب الفيضان.
قصة الغريمة
أجواء رائعة :
في الحديقة المذوية كانت شجرة الأرجوان الكبيرة تمد أذرعها المسوقة بالأزهار الوردية الصينية ،
إلى اليمين يمتد الانعطاف الباذخ لروابي مصطفى ، وينأى في شفافية لا متناهية ،
كانت هناك شذرات ذهبية على الواجهات البيضاء للفيلات ،
هناك بعيدًا تنبسط أجنحة الزوارق النابوليثانية الشاحبة على موج الخليج الهادئ ،
تمر نسمات مفعمة بالرقة في الهواء الدافيء ،
تقشعر الأشياء فجأة فتستفيق في قلب المتشرد أوهام الانتظار ، والاستقرار والسعادة .
المتشرد والسعادة :
ينعزل مع تلك التي أحبها قلبه في المنزل الصغير ، حيث تمر الساعات بلا احساس وفي وهن سائغ ، ،
وراء المشربية ذات الخشب المنحوت ، وراء الستائر زاهية الألوان ،
في الجهة المقابلة كان الديكور الكبير للجزائر وهو يدعوهما إلى احتضار لذيذ، لماذا الرحيل ؟
لماذا البحث عن السعادة في مكان آخر ؟ والمتشرد يعثر عليها هنا ،
لا حد لها في ثمر البرقوق المتغير للحبيبة حيث يغوص بنظراته طويلًا ،
طويلًا إلى أن تسحق كآبة الشهوة القصوى روحيهما !
الوحدة والحياة :
لماذا البحث عن فضاء حين تتفتح خلوتهما الضيقة على الآفاق الفسيحة ،
حين يحسان أن الكون فيهما يختزل ؟.. كان كل شيء عدا حبه يبتعد ..
يرتد إلى موجات تنأى ، يتخلى عن حلمه الداعي للفخر بالوحدة ،
يتنكر لديار الصدف والمخاطرة والطريق الصديقة ، تلك الخليلة المستبدة ،
المنتشية بالشمس ، تلك التي طالما أخذها وأحبها ،
استسلم المتشرد بقلب مضطرم ساعات وأياما لهدهدة إيقاعات النشوة التي كانت تخيل إليه أزلية ،
كانت الحياة والأشياء تبدو في مخيلته جميلة ، فكر أيضًا أن وضعه الآن صار أحسن ،
وقد غدا أكثر رقة في قوة سلامة جسمه المنكسر ، وطاقة إرادته الذاوية .
في الماضي :
في الماضي وفي أيام المنفى وفي خضم السأم الساحق ، للمعيشة الحضرية للمدينة ،
كان قلب المتشرد يعتصر وجد لذكريات فتنة المشهد الساحر للشمس على السهل الطليق ،
والآن وهو يفترش سريرا دافئًا في شعاع أشعة الشمس الذي يتسلل من النافذة المشرعة ،
يمكنه أن يستحضر وبصوت خافت جدًا ، في أذن الحبيبة رؤى وطن الأحلام ،
ممزوجة فقط بالكآبة المبهمة الرقيقة كأنها عطر الأشياء الميتة .
ابتسامة في الليل :
لم يعد المتشرد يأسف على أي شيء ، إنه لا يرغب إلا في تلك اللحظات السرمدية للذي كان ،
أسدل الليل الدافئ ستائره على الحدائق ، صمت يخيم ، وتنهده عميقة تتصاعد ،
تنهدة البحر الذي ينام هناك
في المنخفض السحيق تحت النجوم ،
تنهدة الأرض المفعمة بحرارة الحب ، نيران تتوهج كاللآلئ على قمم الروابي الغضة ،
أخرى تناثرت على الساحل كأنها حبات مسبحة ذهبية ، وأخرى تشتعل كأنها عيون حائرة في مجمل ظل الأشجار الباسقة ،
خرج المتشرد وحبيبته إلى الطريق المقفرة إلا منهما ، وقد اشتبكت أيديهما وراحا يبتسمان في الليل .
الصمت والحبيبة :
لم يتكلما ، ففي الصمت يتفاهمان أكثر ، وصعدا المنحدر الساحلي ببطء ،
بينما القمر ينبعث بين الأشجار الأوكاليبتوس على أولى تضاريس متهيجة منخفضة ، وجلسا على صخرة ،
ينبعث بريق أزرق على الريف الليلي ، وتهتز أرياش البلشون الفضية على الأغصان الرطبة ،
تفرس المتشرد في الطريق طويلا ، الطريق الفسيحة البيضاء المسافرة بعيدًا في المدى ، طريق الجنوب ،
واهتز العالم من الذكريات في روح المتشرد ، التي استيقظت فجأة ، أغمض عينيه ليطرد تلك الرؤى ،
وتشنجت يده في يد الحبيبة وهو يشدها ، لكنه رغمًا عنه يفتح عينيه .
احساس بالرحيل :
عشقه القديم للخلية المستبدة المنتشية بالشمس يعاوده من جديد ، كان لها بكل وجدانه ،
وهو ينهض سألقى نظرة طويلة إلى الطريق للمرة الأخيرة : لقد كان موعودا بها ، دخلا ظل حديقتهما المفعم بالحياة ،
وخلدا للنوم في صمت تحت شجرة الكافور الباسقة ،
فوق رأسيهما كانت شجرة الأرجوان تمد أذرعها المسوقة الملأ بأزهار وردية تبدو كأنها بنفسجية ، في الليل الأزرق ،
ينظر المتشرد إلى حبيبته الجالسة بقربه ، لم تعد سوى رؤية ضبابية مائعة وستنقشع في ضياء القمر ،
كانت صورة الحبيبة باهتة ، بعيدًا هناك بالكاد تتجلى ،
حينئذ أدرك المتشرد الذي لم يزل قلبه ينبض بحبها أنه سيرحل في الفجر ، وانقبض قلبه .
الحب والموت :
أمسك زهرة كبيرة من الكافور ، العاطر وقلبها كي يخفي شهقة ، وراء الخط الأسود للأفق ،
كانت الشمس الحمراء قد تلوثت في بحر من الدم ، وبسرعة انطفأ النهار ، وغرقت الصحراء الصخرية في شفافية سوداء ،
واشتعلت بعض النيران في ركن من السهل ، بدو رحالة مسلحون بالبنادق يهزون ستائرهم الطويلة البيضاء حول اللهب المضيء ،
يطلق حصان مشكول صهيله ، رجل يجلس القرفصاء ، رأسه إلى الوراء ،
مغمض العينين كما حلم يدندن أغنية شعبية قديمة كئيبة ، حيث تتناوب كلمة حب مع كلمة موت .
النهاية :
ثم صمت كل شيء في المدى الشاسع الأخرس ، نائمًا كان المتشرد ، قرب نار نصف مطفأة وقد تسربل ببرنوسه ،
متكئا برأسه على ذراعه منهك القوى ، استسلم للسكينة اللامتناهية ، في أن ينام وحيدًا مجهولا بين الناس بسطاء وأجلاف ،
مجهولا من تحت الأرض ، الأرض الطيبة المهدهدة ، في مكان مجهول من الصحراء وحيث لا يعود أبدًا .
إقرأ المزيد من القصص على موقعنا