قصة الحداد رجلا جسيماً ، الأطول قامة في تلك الناحية ، كتفاه منتفختا العضلات ،
ووجهه وذراعاه سود من لهب المسبك وغبار الحديد المتطاير من المطارق ،
رأسه المربع تعلوه غابة كثة من الشعر المشعث ، وتحتها عينا طفل زرقاوان محملقتان ، صافيتان كالفولاذ .
فكه العريض يتدحرج بقهقهات ضحك وصفير لهاث هادر يشبه أنفاس منفاخه ، وانفجاراته المرحة ،
وحين يرفع ذراعيه مطمئن لجبروت قوته ، حركة اعتادها من سنوات العمل على السندان ،
يبدو وكأنه يحمل سنواته الخمسين بأكثر تهلهلاً وانشراحاً ،
مما يرفع الآنسة تلك الكتلة التي تزن خمسة وعشرين رطلاً ،
فتاة رهيبة وحده دون سواه في فورنون إلى روان يمكنه أن يجعلها تتقافز وترقص .
قصة الحداد
نبذة عن المؤلف:
هو إميل فرانسوا زولا ، ولد في باريس في فرنسا 2 ابريل عام 1840م ،
كاتب فرنسي مؤثر في المدرسة الأدبية التي تتبع الطبعانية ، ومن أشهر أعماله غموض مارسليا ، مادلين ،
الكرثة ، الحقيقة ، توفي إميل زولا ، عن عمر 62 عاماً ، في 29 سبتيمبر عام 1902م .
قصة الحداد
حكايتي :
عشت سنة عند الحداد ، سنة نقاهة كاملة ، كنت قد خسرت قلبي وفقدت عقلي ،
مضيت هائماً على وجهي ، بحثاُ عن نفسي عن بقعة سلام وعمل أستعيد به بأسي ورجولتي .
ذات مساء :
هكذا ذات مساء ، لمحت على الطريق ، بعدما تجاوزت القرية ، مشغل الحدادة معزولاً ، متوقداً ،
وقد زرع منحرفاً عند مفرق الدروب الأربعة ، كان الوهج شديد حتى أن الباب العريض المشرع ،
على دفتيه كان يلهب التقاطع ، وأن بخاراً كان يتصاعد من أشجار الصفصاف المصطفة في المقابل على طول الطريق وكأنها مشاعل ،
في البعيد وسط عذوبة الغسق ، كان وقع المطارق ، يتردد منتظماً رتيباً مسافة كيلومترين ،
مثل عدو فوج خيالة يقترب جاراً من أسلحته ، هناك تحت الباب المشرع ، وسط النور والضوضاء ،
في وسط هذا الرعد وارتجاجه ، توقفت سعيداً وقد وجدت عزائي في تأمل هذا العمل ومعاينة يدأي الرجل ، تلويان القضبان الحمراء وتسطحهما .
اللقاء الأول :
كانت هذه أول مرة أرى فيها الحداد ، في ذلك المساء في فصل الخريف ، كان يسبك شفرة محراث ،
قميصه المفتوح يكشف عن خشونة صدره ، حيث الضلوع تبرز مع كل نفس هيكلها من المعدن المجبول بالمحن والتجارب ،
كانت تلك الآنسة التي يجعلها الحداد تترنح على هذا النحو بيديه ، في حين يمسك ابنه ،
الفتى العشريني الحديد الملتهب بطرف الملقط ويطرقه من جانبه مسددا ضربات مكبوتة تكتمها الرقصة الباهرة التي تؤديها فتاة الوالد الفظيعة ، طق طق ، طق طق …
ولكنه صوت رزين ، كانت الآنسة تواصل ترنحاتها ، نافضة برق فستانها ،
طابعة كعبي حذاءيها في الشفرة التي تنحتها هي كلما ضربت السندان وارتدت عليه ،
كانت شعلة نازفة تسيل حتى الأرض ،
ملقية ضوءها على العظام الناتئة في جسد العاملين بينما يتطاول ظلاهما الضخمان حتى زوايا المشغل الغارقة في عتمة مبهمة ،
شيئًا فشيئًا شحب اللهيب وتوقف الحداد ، انتصب أسود ، متكئا إلى ذيل المطرقة ، وعلى جبينه قطرات عرق لا يأبه حتى لمسحها ،
كنت أسمع الأنفاس المتصاعدة من ضلوعه التي لاتزال ترتج من وطأة الصدمات ، وسط هدير المنفاخ الذي يشد عليه ابنه بيد بطيئة .
السكن :
في المساء كنت أبيت عند الحداد ولا أعود أخرج ، كانت لديه غرفة في الطابق العلوي فارغة ،
فوق المشغل عرضها عليّ وقبلت ، كنت أشارك في نهار مضيفي في الساعة الخامسة ، قبل طلوع الفجر ،
أستيقظ على قهقهات المنزل برمته الذي يضج طوال النهار بمرحه الصاخب ، المطارق تتراقص تحت غرفتي ..
المطارق :
كان يخيل لي أن الآنسة ترميني خارج سريري ، فتطرق علي السقف وتعيرني بالخمول ، الغرفة المسكينة برمتها ،
بخزانتها الطويلة الكبيرة وطاولتها الخشبية البيضاء وكرسييها ، كلها تطق طق وتصيح بي أن أسرع كان لابد لي أن أنزل ، في تلك الساعة المبكرة .
في الأسفل :
في الأسفل أجد المشبك متوهجاً في تلك الساعة المبكرة ،
المنفاخ يهدر من الفحم المتقد ويتصاعد لهب أزرق ووردي وكأن كرة كوكب تلمع تحت الريح وتتلاعب بالجمر ، كان الحداد يعد لعمل النهار .
يحرك قطع حديد في زوايا مشغله ، يقلب عربات ويتفحص عجلات ،
حين يتنبه لي يضع يديه في خاصرتيه ويقرقع بضحكته التي تشق فمه حتى أذنيه ،
كان يبهجه أن يطردني من سريري في الخامسة صباحاً ، وضع يديه الكبيرتان على كتفي وانحنى كأنه يكلم طفل
ويقول لي : إن صحتي اشتدت منذ أن انتقلت للعيش بين حدائده ، وفي كل يوم ، نتناول النبيذ الأبيض معاً على قعر عربة قديمة مقلوبة .
نهاري :
ثم أخذت أقضي معظم نهاري في غالب الأحيان في مشغل الحداد ، في الشتاء خصوصاً ، في الأيام الماطرة ،
قضيت ساعاتي بكاملها هناك ، كنت أتبع عمله باهتمام ،
ذلك الصراع المتواصل الذي يخوضه الحداد مع الحديد الخام فيعجبه ويدلكه كما يشاء ،
كان يفتتني وكأنني أشاهد مسرحية عظيمة ، أتابع المعدن من الكور إلى السندان ، أراقبه بذهول وهو يتلوى ويتمدد بليونة الشمع تحت وطأة مجهود العامل القاهر .
الحدّاد:
لم أسمع الحداد يوماً يشتكي ، كنت أراه بعدما يقضي يومه يطرق على الحديد على مدى أربع عشرة ساعة ،
يضحك في المساء بضحكته الطيبة المرحة وهو يفرك ذراعيه راضياً ، لم يكن يوماً حزيناً ولا تعباً ،
في الشتاء كان يقول أن الجو دافئ في مسبكه ، وفي الصيف كان يفتح الباب على مصراعيه ويترك رائحة العلف تتغلغل إلى الداخل .
ذكريات الحداد :
كان الحداد يمازح كثيرًا ويقول أن كل الأراضي ملك له ،
إن مشغل الحداد يمد البلاد بالمحاريث على مدى مائتي عام مضى ،
كان يعتز بذلك ، فلولاه ما نبت زرع ، ولئن كان الحقل يخضر في أيار ويصفر في تموز ،
فهو مدين له بذلك الحرير المتموج المتبدل .
كان يحب المحاصيل وكأنها بناته ، ينبهر بالشموس الضخمة ،
يرفع قبضته مهددًا غيوم البرد التي تنشق ملقية حمولتها ، يشير لي أحيانًا إلى قطعة أرض في البعيد تبدو أصغر مساحة من قفا سترته ،
ويروي لي في أي سنة بالتمام سبك محراثاً لذلك المربع الشوفان أو الشيم .
أخيرًا شُفيت :
كم كان الحداد يبدو لي رائعاً أحيانا ، في ما بعد الظهائر الحارة ! عاريا حتى الخصر ، عضلاته متصلبة ونافرة ،
كان يشبه احدى مخلوقات مايكل أنجلو الهائلة التي تنهض في مجهود أخير ، أنظر إليه .
فأرى أحجام النحت الحديث وخطوطه التي يبحث عنها فنانونا بعناء في الأجساد الميتة ،
من عهد الاغريق ، أرى فيه بطل العمل العظيم ابن هذا القرن الذي لا يعرف التعب ،
هنا في مشغل الحداد ، وسط هذه المحاريث ، شفيت إلى الأبد من داء البلاده والتشكيك الذي كان يلم بي .
إقرأ المزيد من القصص على موقعنا