قصة في الحقول بالقرب من مدينة اشتهرت بحماماتها المعدنية ،
قام كوخان عند سفح رابية هناك ، كان صاحبا الكوخين فلاحين يعملان بجد في أرض خصبة لإعالة صغارهما ،
أربعة لكل منهما ، وأمام البابين كانت مجموعة من الأطفال ،
من العائلتين تعج من الصباح حتى المساء ، البكران بعمر ست سنوات والصغيران بحدود خمسة عشر شهراً ،
جرى الزواج ومن ثم الولادات بالتزامن تقريبًا في كلا البيتين .
قصة في الحقول
نبذة عن المؤلف :
قصة من روائع الأدب الفرنسي ، للكاتب هنري رينيه ألبيرغي دي موباسون، ولد موباسان ،
بقصر ميرونمسنل بنورمانديا بفرنسا ، في عام 1850م وتوفي عام 1893م ،
وكان يكتب باللغة الفرنسية فقط ، ومن أشهر أعماله بيل أمي وكرة الشحم .
قصة في الحقول
تقارب :
كانت الأمان تعرفان انتاجهما بصعوبة حين يكون الأولاد معاً ، أما الأبوان فكانا لا يميزان كلياً ،
إذ كانت الأسماء الثمانية ، تتراقص في رأسيهما وتختلط ،
وحين ينادي واحداً كان الرجلان يذكران على الأقل ثلاثة أسماء قبل وصولهما إلى الولد المطلوب .
المنازل والمعيشة :
أول منزل في اتجاه حمامات رولبور ، كان آل توفاش يشغلانه ، ولهم ثلاث بنات وصبي ،
ويأوي إلى الكوخ الآخر آل فالان ، ولهم ثلاثة صبيان وابنة واحدة ،
عاش الجميع بمشقة يقتاتون من الحساء والبطاطا والهواء الطلق ،
في السابعة صباحاً وظهراً حتى الساعة السادسة مساء كانت الوالدتان تجمعان الأطفال لإطعامهم .
كما يجمع الرعاة الأوز ، يجلس الأطفال في صفوف حسب الأعمار ،
أمام طاولة خشبية طلاؤها يعود إلى خمسين عاماً من الاستعمال ،
أما الولد الأصغر فإن فمه كان بمستوى ترس الطاولة ،
وكان عليها صحن الخبز اليابس المبلل بماء البطاطا المطبوخة ، مع الملفوف وثلاث بصلات .
فيأكلون حتى الشبع ، أما الصغير فكانت أمه تطعمه بنفسها ،
نهار الأحد كان يضاف إلى ذلك قليل من اللحم يشعرهم بأنه عيد للجميع ،
في ذلك اليوم كان لوالد ببطيء وهو يأكل ويقول سيأتي زمن سنأكل ذلك كل يوم .
الغريبة :
ذات يوم من شهر آب ، توقفت فجأة عربة صغيرة ، تقودها امرأة شابة ، أمام الكوخين ،
فقالت لرجل جالس إلى جانبها : ألا انظر يا هنري إلى هذا العدد من الأطفال ! ما أجملهم هكذا يعجون في الغبار !
لم يجب الرجل بشيء وقد اعتاد هذا الاعجاب الذي كان بمثابة ألم أو ما يقارب التأنيب أو الملامة بالنسبة إليه استأنفت المرأة قائلة :
يجب أن أقبلهم ! نعم كم أتوق ليكون لدي واحد هذا الصغير ..
قفزت من العربة وجرت نحو الأولاد ، أخذت واحداً من الأصغرين ،
ابن توفاش ، ورفعته بين ذراعيها وقبلته بعاطفة على خديه الوسختين
وشعره الأشقر المجدول المشبع بالتراب ويديه الصغيرتين اللتين كان يهزهما ليتخلص من تلك المداعبات المضجرة .
ثم ركبت عربتها وغادرت بسرعة ،
غير أنها عادت في الأسبوع التالي ، وجلست على الأرض وأخذت الطفل بين يديها وحشت فمه بالحلوى
ووزعت السكاكر على الآخرين ، ثم لعبت معهم مثل طفلة ، بينما كان زوجها ينتظر بصبر في عربته الخفيفة .
دعوة لتبني طفل :
رجعت مرة أخرى وتعرفت على الأهل ، وعادت للظهور ثانية كل يوم وجيوبها ملأى بالحلوى والنقود ،
كان اسمها السيدة هنري روبيير ، وذات صباح ، حين وصلت نزل زوجها معها ، ودون أن تتوقف عند الأطفال ، الذين أصبحوا يعرفونها ، دخلت بيت الفلاحين .
كانا هناك يقطعان الحطب لطهو الحساء ، انتصبا في وقفتهما من المفاجأة وقدما الكراسي وانتظرا ،
حينئذ تكلمت المرأة الشابة بصوت متقطع راجف وقالت : أيها الطيبون ،
جئت إليكم لأنني أود من قلبي أود أن أصطحب معي ولد ولدكم الصغير ..!!
عرض وذهول :
لم يجب الريفيان وقد ذهلا وتوقفا عن التفكير ، أخذت نفساً عميقاً ثم تابعت : لم نرزق بأولاد ،
ونحن وحيدان ، زوجي ، وأنا سنرعاه ونصونه أتوافقان ؟ ، بدأت القروية تفهم الوضع فسألت : تريدان أخذ شارلو منا ؟ لا .
بالتأكيد حينئذ تدخل السيد دوبيير قائلًا : لقد أساءت زوجتي التعبير ،
نريد أن نتبناه ، للكنه سيعود لزيارتكم ، فإن أحسن التصرف ،
كما أعتقد أنه سيفعل سيكون وريثاً لنا ، وإذ صدف أن رزقنا بأولاد ،
سيتقاسم معهم الإرث ، لكن إن لم يتجاوب مع اهتمامنا ، سنعطيه حين يبلغ سن الرشد مبلغاً وقدره عشرون ألف فرنك ،
وسيسجل هذا المبلغ فوراً لدى الكاتب بالعدل ، وبما أننا فكرنا بكما أيضاً ،
سنقدم لكما ، حتى نهاية أيامكما ، دخلا قيمته مئة فرنك شهرياً ، هل فهمتما قصدنا ؟
رفض :
نهضت القروية وردت غاضبة : تريدان أن تبيعكما شارلو ، لا هذه الأشياء لا تطلب من أم أبدا ! لا ،
لا ! هذا منتهى الفظاعة صمت رجلها متهيبا ليفكر ، وكان يوافق معها بإيماءة مديدة من رأسه ..
محاولة أخرى ورفض آخر :
بكت السيدة دوبيير واضطربت ، ثم استدارت نحو زوجها وقالت بصوت تخنقه العبارات ،
أشبه بصوت طفلة مدللة تلبي عادة جميع طلباتها ، ياهنري .. إنهم لا يريدون ..لا يريدون ..
قاما ثانية بمحاولة أخيرة وقال : ولكن يا أصدقائي ، فكروا بمستقبل ولدكم وسعادته ، ب … قاطعته القروية وقد عيل
صبرها : سمعنا وعرفنا وفكرنا في كل شيء .. هيا ارحلا .. إياكم والعودة إلى هنا ..هل من المباح انتزاع طفل هكذا !!
طفل آخر :
انتبهت السيدة دوبيير وهي تهم بالخروج أنه كان هناك صغيران ، فسألت وهي دمعة العينين ،
بصلابة امرأة عنيدة ترفض الانتظار : والصغير الآخر ، أليس من أولادك ؟.. أجاب الوالد توفاش : لا ، اه ابن الجيران ، تستطيعان الذهاب اليهم إن رغبتما .
العائلة الآخرى :
ودخل إلى بيته حيث كان صوت زوجته مازال يلعلع غاضباً ، كان آل فالان جالسين حول المائدة يأكلان ببطء شرائح الخبز ،
يمررون عليها بتقتير قليلاً من الزبدة الموضوعة في صحن كان بينهما ، بدأ السيد دوبيير يدلي باقتراحاته ، ولكن بتلميحات أكثر ، وبحرص وتحايل خطابي أكبر ..
إغراء وقبول :
بدأ القرويان يهزان برأسيهما دليلاً على الرفض ، ولكن حين علما بمائة فرنك تنتظرهما كل شهر ،
تكلما بالعيون وقد تخلخل تفكيرهما .. صمتا طويلاً ..ترددا كثيراً وتعذبا ..أخيراً سألت المرأة :
ما رأيك يا زوجي ؟؟..قال : أقول إن ذلك ليس بهذا السوء ..حينذاك توجهت إليهما السيدة دوبيير التي كانت ترتجف من الغم ،
بكلام حول مستقبل الصغير ، وسعادته وكل الأموال التي سيعطيهما فيما بعد ..
تمت البيعة :
سألها الفلاح : المائة فرنك هذه ، هل تعدينني بها أمام الكاتب العدل ؟ .. أجاب السيد دوبيير : بالتأكيد اعتباراً من الغد ،
أما القروية التي كانت ما تزال تفكر ، فقد قالت : مئة فرنك شهرياً ،
هذا لا يكفي مقابل حرماننا من الصغير ،
لأنه خلال بضع سنين سيكون قادراً على العمل يلزمنا مئة وعشرون ..
وافقت السيدة دوبيير وهي تضرب الأرض بقدمها بنفاذ صبر ،
وحين أخذت الطفل أعطت والديه مئة فرنك كهدية ، بينما كان زوجها يكتب ،
واستدعى العمدة وأحد الجيران كشاهدين ، وانفرجت أسارير المرأة الشابة وحملت الطفل ، الذي كان يصيح بأعلى صوته ،
كما تحمل التحف أو الأواني المزخرفة من المخازن ، كان آل توفاش واقفين عند الباب ،
يراقبان ذهابهم واجمين عابسين ، مع شيء من الندم شعرا به لرفضهما ذلك العرض !!
معايرة :
لم يسمع أحداً شيئاً عن جان فالان الصغير ، أما أهله كانوا يذهبون كل شهر لقبض مئة وعشرون فرنك لدى الكاتب العدل ،
كانوا قد تعادوا مع الجيران لأن زوجة توفاش كانت تذكرهم بفضيحتهم ، مرددة من بيت إلى آخر ،
أن آل فالان فقدوا انسانيتهم حين باعوا ولدهم وأن ذلك كان بمثابة فظاعة ونذالة وخسة كانت تمسك شارلو
بين ذراعيها متباهية وتصيح به وكأنه يفهم : أنا لم أبعك يا صغيري ، أنا ، لا أبيع أولادي ، لست بالغنية ، ولكنني لا أبيع أولادي ..
بعد مرور السنوات :
وعلى مدار السنون كان المشهد يتكرر كل يوم ، وكانت كل يوم التلميحات تتوالى بشكل فظ أمام باب البيت بحيث تصل إلى الجيران ،
وانتهى الأمر بأن زوجة توفاش اعتبرت نفسها أعلى منزلة من كل أهل المقاطعة ،
لأنها لم تبع شالو ، والذين يذكرونها كانوا يقولون : نعلم تماماً أن ذلك كان مغرياً ، مع ذلك فقد تصرفت كأم صالحة ،
ضرب بها المثل ، أما شارلو الذي بلغ عامه الثامن عشر ،
فقد تربى مع تلك الفكرة التي رددت على مسامعه بلا هوادة ،
فكان يعتبر نفسه أعلى منزلة من رفاقه لأن الأهل لم يبيعوه ..
عاش أهل آل فالان في بحبوحة بفضل تلك النفقة ،
وثورة آل توفاش التي ظلت حالتهم بائسة ، كان مردها تلك البحبوحة ،
ذهب ابنهم البكر لأداء الخدمة الالزامية ، وتوفي الثاني ،
وبقي شارلو يكد ويتعب مع والده لتأمين عيش الوالدة وأختين أصغر منه سناً .
المفاجأة :
بلغ واحد وعشرون عاماً ، وفي أحد الأيام توقفت عربة حديثة تلمع ، أمام الكوخين ،
فنزل منها شاب بيده ساعة ذهبية ، وبيد أخرى أمسك بذراع سيدة مسنة قد ابيض شعرها ،
فقالت له العجوز : هناك يا بني ، في البيت الثاني .. دخل كما يدخل إلى بيته ، كوخ فالان .. أمه العجوز كانت تغسل مآزرها ،
وأبوه العاجز غافل أمام الموقد ، رفع كل منهما رأسه ، فقال الشاب : صباح الخير أمي ،
صباح الخير أبي .. انتصبا مذعورين ، وأوقعت العجوز الصابون في الماء لانفعالها وتمتمت : هذا أنت يا ابني ، هذا أنت ؟؟
أحاطها بذراعيه وقبلها مرددا : صباحك سعيد يا أمي ..
بينما كان الشيخ ينتفض ويقول بصوته الهادئ الذي لم يفقده يومًا : ها إنك عدت يا جان ؟ كما لو كان شاهداه منذ شهر ..
حين عرف بعضهم بعضاً ، أراد الأهل اخراج ابنهما ليراه أهل البلد ،
أخذوه إلى العمدة ومعاونه وإلى الكاهن ثم إلى معلم المدرسة ، كان شارلو واقفاً أمام الكوخ يشاهده حين مر ..
الغضب :
عند المساء قال لأبيه وهو وهم يتناولون وجبة العشاء : هل كان من الضروري أن تكونا أحمقين ،
وتدعاهما يأخذان صغير آل فالان ؟ ، أجابته أمه بعناد : لم نرض أن نبيع ولدنا ..
أما أبوه فقد بقي صامتاً فتابه الابن قائلا : أليس من التعاسة أن يضحي بي هكذا ؟ ..
حينئذ أجابه والده بغضب : هل ستلقي علينا اللوم لأننا احتفظنا بك ؟ .. فقال الشاب بفظاظة :
نعم إنني ألومكما فأنتما والعدم شيء واحد ،
فالأهل الذين على شاكلتكم ، هم سبب تعاسة الأبناء ، وتستحقان أن أرحل عنكما ..
بكت المرأة الطيبة فوق صحنها ، وسمع أنيها وهي تبتلع الطعام ملعقة بعد الأخرى ،
وقد أراقت نصفه على الطاولة : هيا اقتل نفسك لكي تربي أولاداً ! ،
فقال الشاب بغضب : كنت أفضل لو أنني ما ولدت من أن أكون ما أنا عليه ،
حين شاهدت الآخر منذ قليل دارت بي الدنيا وقلت في نفسي : هذا ما كان مقدراً لي أن أكونه الآن ..
ثم نهض وقال : حسناً أشعر بأنه من الأفضل ألا أبقى هنا ،
لأنني سأظل الومكما على فعلتكما من الصباح إلى المساء ،
وأنني سأنغص عليكما الحياة ، ولن أغفر لكما أبداً هذا التصرف ..
النهاية :
صمتا الوالدان العجوزان وقد أصيبا بالذهول ، واغرورقت أعينهما ،
تابع قائلا : لا ! ستكون تلك الفكرة من القساوة بمكان ، يحسن بي الذهاب والبحث عن العيش في مكان آخر ،
فتح الباب ، فجاءت أصوات الجيران المحتفلين بعودة ابنهم ،
ضرب شالو الأرض بقدمه والتفت نحو أهله وصاح : يا أيها الأجلاف … واختفى عن أعينهم في الليل البهيم ..
إقرأ المزيد من القصص على موقعنا
