قصة رواية الهارب تدور أحداث عن الانفعالات المختلفة التى تلازم الطفل باشكا ،
بسبب إهمال والدته فى الذهاب به سريعًا للعلاج حين أصابه مرض بذراعه ببقاءه في المستشفى لمدة ليلة .
وذلك استعدادًا للقيام بجراحة لذراعه ،
وتروي القصه أحداث تلك الليلة التي عاشها الطفل باشكا وحيدًا داخل المستشفى
دون أمه والانفعالات المختلطة التي لازمت الطفل بين مشاعر الدهشه والفرح والخوف والحزن والبكاء والموت ،
القصة كتابها الأديب الروسي أنطون تشيخوف روسي الجنسيه ، وتعد من أشهر رواياته بعد الرهان .
قصة رواية الهارب
قصة الرواية :
كانت تلك عملية طويلة ، ففى البداية سار باشكا مع أمه تحت المطر تارة عبر حقل محصود وتارة فى الغابه ،
حيث كانت الأوراق الصفراء تلتصق بحذائه ، سار حتى الفجر ، ثم وقف قرابة ساعتين فى المدخل المظلم ينتظر فتح الباب .
لم يكن المدخل رطبًا وباردًا كما فى الخارج بيد أن رذاذ المطر كان يتطاير إلى الداخل مع هبوب الريح ،
وعندما اكتظ المدخل شيئًا بشيئًا بالبشر ، دفن باشكا وجهه بمعطف شخص ما ،
كانت تنبعث منه بشدة رائحة سمك مملح ، ثم نعس ، وها هو ذا المزلاج يصر ويفتح الباب على مصراعيه ، فيدخل باشكا مع أمه غرفة الاستقبال .
وهنا أيضا اضطروا أن ينتظروا طويلًا ، وكان المرضى جالسين على الأرائك بلا حراك وفي صمت ،
وتطلع باشكا إليهم ولزم هو الآخر الصمت ، رغم أنه رأى الكثير من الأشياء الغريبة والمضحكة ، لم يتمالك نفسه مرة وحيدة فقط .
عندما دخل الغرفة فتى ما وهو يقفز على ساق واحده ، فقد شعر باشكا بالرغبة فى أن يقفز هو أيضا ،
ونكز أمه فى كوعها مرة واحدة وقال وهو يكتم ضحكة فى كمه انظري يا أمي عصفور ،
فقالت أمه أسكت يا بني أسكت .
وظهر الحكيم النعسان فى شباك صغير وقال بصوت أجش ، تقدموا للتسجيل ، وأسرع الجميع الى الشباك ،
بمن فيهم الفتى النطاط المضحك ، وكان الحكيم يسأل كل منهم عن اسمه واسم أبيه ، وعن عمره وعن مكان اقامته ومتى مرض وغير ذلك.
وعرف باشكا من ردود أمه أن اسمه ليس باشكا ، بل بافل جلاكتيونوف ، وأن عمره سبع سنوات ،
وأنه أمي وأنه مريض منذ عيد الفصح ، وبعد التسجيل بقليل كان عليهم أن ينهضوا ،
اذ مر الطبيب عبر غرفة الاستقبال مرتديًا مريلة بيضاء ومحزم بفوطه .
وحين مر بجوار الفتى النطاط ، هز كتفيه وقال بنبرة غليظة منظمة يالك من أحمق ،
حسنًا ألست أحمق حقا ، لقد قلت لك أن تأتي يوم الاثنين وها أنت ذا تأتي يوم الجمعه ،
بالنسبة لي لا يهم حتى لو لم تأتي ، لكن ساقك ستضيع أيها الأحمق .
ورسم الفتى على وجهه المسكنة الشديدة ، وكأنه ينوي أن يسأل حسنه وطرف بعينيه وقال اصنع معروف يا ايفان ميكولايفيتش ،
فقال الطبيب مقلدًا لهجته ، دعك من ايفان ميكولايفيتش قلت لك يوم الاثنين ،
وكان يجب أن تسمع الكلام لست إلا أحمق ، وبدأ استقبال المرضي .
كان الطبيب يجلس فى غرفته يستدعي المرضي ، ومن وقت لآخر تتردد من هناك صرخات حادة ،
وبكاء أطفال ، أو هتاف الطبيب الغاضب ، وجاء دور باشكا ، وصاح الطبيب بافل جلاكتيونوف ،
روعت الأم كأنها لم تكن تتوقع هذا الاستدعاء .
ثم أمسكت باشكا من يده وسحبته الى غرفة الطبيب ،
وكان الطبيب جالسًا إلى الطاوله وهو يدق بمطرقة صغيرة آليا على دفتر سميك ،
وسأل دون أن ينظر الى الداخلين ، مما يشكو ؟ فأجابت الأم الولد عنده دمل فى كوعه يا سيدي .
وارتسم على وجهها تعبير وكأنما كانت حقا فى غاية الحزن بسبب دمل باشكا ،
قال لها الطبيب بنبرته الغاضبة ، اكشفي عنه ملابسه ولا تتلكئين فلم تأتي إلى هنا للضيافة فلست الوحيدة عندي .
فألقي باشكا المعطف على الأرض بعجلة وخلع القميص بمساعدة أمه ،
ثم صعد باشكا الى طاولة الكشف ، وهو يتطلع شزرا الى القسط المملوء بمخلفات الأربطة الدمويه ،
ثم إلى مريلة الطبيب وأجهش بالبكاء ، فقلده الطبيب فى بكاءه ساخرًا .
قائلًا آن الأوان أن تتزوج أيها المخادع بينما تبكي ،
فنظر باشكا إلى أمه محاولًا ألا يبكي وتجلى فى نظرته هذه رجاءًا لا تعلمي أحدًا فى المنزل بأني بكيت فى المستشفي ،
وضغط الطبيب على ذراعه مرتين ثم تنهد وقال لأمه انظرى يا حمقاء مفصله مريض .
أين أنت من نصف سنه ، لقد ضاع ذراع الولد من التقيح ، فردت الأم أنتم أدرى يا سيدي ،
فرد عليها الطبيب تهملين ذراع الولد حتى يتقيح ثم تقولين يا سيدي ،
أي سبب هو من دون ذراع سوف تقضين عمرك كله فى العناية به ، كلكن هكذا ،
ثم أشعل لفافة من التبغ وأخذ يهز رأسه على أنغام أغنية كان يدندن بها وهو يفكر .
عالم جديد داخل المشفى :
ومع انتهاء لفافة التبغ انتفض الطبيب وقال بلهجة أكثر هدوء ،
مما كان عليه أن الدواء والمراهم لن تجدي مع حالته فلما لا ندخله المستشفي ،
ونجرى له عملية جراحيه ، فردت الأم ولما لا يا سيدي إذا كان هذا ضروريًا ،
ثم قال مخاطبًا باشكا وهو يربط على كتفه ، ابقي عندنا يا باشكا ودع أمك ترحل أما أنا وأنت يا أخي فسنبقي هنا .
فالحياة هنا طيبة يا أخي ، وما أن نفرغ من العمل هنا يا باشكا حتى نذهب للاصطياد وسأريك الثعلب الحي ،
وسنذهب معا لزيارة الجيران، ها هل تريد ؟ ، وستأتي أمك غدًا إليك ،
فنظر باشكا إلى أمه مستفهما فقالت ، أبقي يا بني ،
فصاح الطبيب بمرح سيبقي سيبقي ، ولا حاجة الى الكلام فسأريه الثعلب حيا وسنذهب إلى السوق لنشتري الحلوى .
خذيه يا ماريا إلى الطابق الثاني ، قال ذلك مخاطبًا الممرضه ،
وبدى الطبيب الذي أغلب الظن كان فتى مرحًا وطيبًا ،
أنه مسرور بهذه الصحبه وأراد باشكا أن يرضيه خاصة وأنه لم يذهب الى السوق فى حياته أبدا ،
ولكن كيف يبقي دون أمه ، وبعد أن فكر قليلا قرر أن يرجو الطبيب أن يبقي أمه أيضا فى المستشفى .
وقبل أن يتمكن من فتح فمه كانت الحكيمة تقوده على الدرج الى الطابق العلوي وصار يحدق عن يمينه ويساره بفم مفغور ،
فى الدرج والأرضية وعوارض الأبواب وكلها ضخمة مستقيمة ،
وكانت مطليه بطلاء أصفر رائع ، وتفوح منها رائحة الزيت النباتي اللذيذه ،
وفي كل مكان تدلت المصابيح وفرشت مماسح الأقدام ، وبرزت من الجدران الصنابير النحاسيه .
ولكن باشكا أعجب أكثر بالسرير الذي أجلسوه عليه ، وبالبطانية الرمادية الخشنة ،
وتحسس بيده الوسائد والبطانية وطاف ببصره على العنبر ،
وقرر أن الطبيب يحيا حياة لا بأس بها أبدًا .
كان العنبر صغيرًا لا يضم سوى ثلاث أسره أحدها فارغ والثاني شغله باشكا والثالث شغله عجوز ما ذو عينين مكتئبتين ،
وكان يسعل باستمرار ويبسق فى كوز ، وبعد أن أجلست الحكيمة باشكا ،
انصرفت ثم عادت بعد قليلًا حاملة كومة من الملابس .
وقالت له هذا لك البس ، فخلع باشكا ملابسه وباحساس لا يخلو من المتعه راح يرتدي الزي الجديد ،
وعندما ارتدى القميص والسروال والروب الرمادي راح يتطلع لهيئته بخيلاء ،
وتخيل نفسه وهو يخطو فى قريته بهذا الزي وتصور فى خياله أن أمه سترسله بهذا الزي
ليجمع أوراق الكرنب ليطعم به الحيوانات والأطفال محيطة به ينظرون بحسد الى روبه .
ودخلت للعنبر ممرضة أخرى تحمل في يديها صحفيتين معدنيتين وملعقتين وقطعتي خبز ،
وضعت إحدى الصحفيتين أمام العجوز والأخرى أمام باشكا ، وقالت كل ،
فنظر باشكا إلى الصحفه فرأى بها حساء من الكرنب وقطعة من اللحم .
ففكر ثانية بأن الطبيب يحيا حياة لا بأس بها أبدًا . والتهم الطعام كاملًا بنهم شديد ،
ثم دخلت الممرضه مرة أخرى بصحفيتين آخرتين كان بهما هذه المره لحم مقلي مع البطاطس ،
وسألته الممرضه أين الخبز بماذا ستأكل اللحم المقلي الآن ،
وبدل الرد نفخ باشكا ثم زفر باشكا والتزم الصمت ، فذهبت الممرضه ثم أتت له بقطعة أخرى من الخبز ،
وكان باشكا لم يتذوق اللحم المقلي فى حياته ، وعندما تذوقه وجده لذيذًا جدًا ،
وبعد أن شبع خرج ليتجول فى العنابر المجاوره .
كان فى العنبر المجاور ستة أفراد ، لم يلفت انتباه باشكا منهم سوى شخص شاحب جدًا وهزيل
وعلى رأسه كيس من المطاط ملئ بالثلج
نائم على إحدى الآسره ،
وعلى الأخر يجلس فلاح مباعدًا ذراعيه معصوب الرأس ،
وكان أقرب الشبه لامرأة .
وعلى أحد الأسره الأخرى جلس فلاحًا طويلاً ونحيفًا للغايه بوجه مقفهر مشعر كان على السرير يومئ برأسه ويلوح بيده اليمنى كالبنادول ،
فبدت ايماءات الفلاح البندوليه المنتظمة فى أول الأمر مضحكه ولكن عندما حدق باشكا فى وجهه شعر بالرعب .
وسرعان ما أدرك باشكا أن هذا الفلاح يعاني من مرض خطير ،
ودخل باشكا العنبر الثالث فرأى فلاحين بوجهين أحمرين قاتمين والذي من الصعب أن تميز منهما الملامح كأنما لوثا بالطين ،
وكانا جالسين على سريريهما دون حراك ،
فسأل باشكا الممرضه ، لماذا هما هكذا يا عمتي فقالت مصابون بالجدري يا بني .
ثم عاد باشكا مرة أخرى إلى عنبره فجلس على السرير فى انتظار الطبيب ،
ليذهب به إلى شراء الحلوى أو الى الاصطياد ،
ثم أتى الحكيم إلى العنبر المجاور وانحنى فوق المريض الذى يضع على رأسه كيس ثلج المطاط قائلًا : يا ميخايلو ،
ولم يرد ميخايلو فانصرف الحكيم .
وأخذ باشكا يتأمل العجوز المجاور له فى العنبر فقد أعجب بشيء ما فى العجوز ،
فعندما كان يسعل ويشهق يصفر شيء ما فى صدره ، ويصبح بشتى النغمات ،
وسأله باشكا ما هذا الذي يصفر عندك يا جدى ، فلم يجب العجوز ، ثم سأله وأين الثعلب يا جدي ،
أي ثعلب ! الحي ، فأجاب العجوز وأين يمكن أن يكون فى الغابه ، ومر وقت طويل ولم يأت الطبيب بعد .
وحملت الممرضة الشاي ووبخت باشكا لأنه لم يبقي شيء من الخبز ليأكل به الشاي ،
وجاء الحكيم مرة أخرى وأخذ يوقظ ميخايلو ، ومال الجو إلى الزرقة وراء النوافذ وأشعلت مصابيح العنابر ،
فقد تأخر الوقت على الذهاب للسوق لشراء الحلوى أو للصيد ، فتمدد باشكا على السرير وأخذ يفكر ،
فى الحلوى التى وعده بها الطبيب ، وصوت أمه ، وعتمة منزله فى الليل ،
وفجأة شعر بالحزن وأخذ يتذكر أن أمه سوف تأتي إليه غذًا فابتسم وأغمض عينيه .
وأيقظه حفيف ، كأن أحد يمشي فى العنبر المجاور ويتحدث بصوت خافت ، وفى ضوء المصابيح والقناديل ،
كان ثلاث أشباح تتحرك بجوار سرير ميخايلو ، وقال أحدهم هل نحمله بالسرير أم بدونه فرد الآخر بدونه فلم تمر بالسرير ،
مات فى وقت غير مناسب عليه الرحمه ، أمسك أحدهم ميخايلو من كتفيه والآخر من قدميه ورفعاه ،
وقد تدلت ذراعي ميخايلو وأطرافه روبه بتراخي .
أما الشخص الثالث كان ذلك الفلاح الذي يشبه المرأه فقد رسم علامة الصليب ،
ثم خرج ثلاثتهم بميخايلو من العنبر وهم يدقون بأقدامهم فى اضطراب ويدوسون على أطراف روب ميخايلو المتدلي .
وأصاغ باشكا السمع ثم تطلع إلى النوافذ ثم قفز من السرير فى رعب شديد ،
وتأوه بصوت غليظ قائلًا أمي ، ودون أن ينتظر ردًا انفلت إلى العنبر المجاور وهناك كان ضوء القناديل لا يكاد يشق الظلام ،
وجلس المرضي على أسرتهم مضطربين لموت ميخايلو ، وظهروا بهيئاتهم المشعثه ومع اختلاطهم بالظلال .
بدوا أطول وأضخم مما هم عليه ،
وجلس الفلاح فى جانب من الغرفه على طرف سريره يومئ برأسه بشده ويحرك يده مما أثار الرعب أكثر فى نفس باشكا ،
فانطلق على غير هدى فاقتحم عنبر المجدورين ، ومن هناك الى الممر ودفع غرفة كبيره حيث كانت تجلس فى الأسره مخلوقات رهيبة بشعر طويل ،
ووجوه عجائز ، وبعد أن ركض باشكا عبر القسم النسائي .
خطة الهروب :
وجد نفسه مرة أخرى فى الممر ورأى حاجز السلم المعروف ، فانحدر إلى أسفل وهنا عرف غرفة الاستقبال ،
التي جلس فيها صباحًا ، فأخذ يبحث عن باب الخروج ، صر المزلاج وهبت دفعة هواء بارد فانطلق باشكا الى الفناء وهو يتعثر ، لم يكن فى ذهنه إلا فكرة واحدة أن يهرب .
لم يكن يعرف الطريق ، لكنه كان واثق إذا جرى سيصل حتمًا إلى دارهم الى أمه ،
وكان الليل غائمًا ولكن ضوء القمر لاح خلف السحب ، وركض باشكا من المدخل الى الأمام مباشرة ،
ودار حول الحظيرة فاصطدم بحرش خاو ، واندفع عائدًا إلى المستشفي ودار حولها ، وتوقف ثانية مترددًا ،
فمن خلف مبنى المستشفى لاحت صلبان المقابر البيضاء ، فى منظر مرعب مهيب ، فصاح مرة أخي بصوت عالي أمي ، ثم ركض عائدًا .
وبينما كان يجري مارا بين مباني مظلمة رأى نافذة مضيئة ، فبدت تلك البقعة الساطعة الحمراء فى الظلام مخيفة ،
لكن باشكا الذي جن رعبًا والذي لم يعد يدري إلى أين يجري ، اتجه نحوها وكان بجاور النافذة مدخل ودرج وباب رئيسيًا ولوحة بيضاء ، ارتقي باشكا الدرج رقدا .
ونظر فى النافذة ، فتولته فجأة فرحة غامرة ، فقد رأى فى النافذة الطبيب المرح الطيب ،
جالسًا إلى المدخل يقرأ كتابًا ، ومد باشكا يده إلى الوجه الأليف وهو يضحك من السعادة ، وأراد أن يصرخ إلا أن قوة مجهولة كتمت أنفاسه ، وأهوت على ساقيه ، فترنح وسقط على الدرج مغشيا عليه ، عندما أفاق كان الضوء منتشرًا وبجواره سمع الصوت المعروف ، الذي وعده أمس بالذهاب إلى السوق لشراء الحلوى ، يقول له يا لك من أحمق يا باشكا ألست أحمق حقا ! تستحق الضرب فعلا تستحق الضرب .
إقرأ المزيد من القصص على موقعنا