قصة الرهان تعد رواية الرهان ، واحدة من كلاسيكيات الأدب العالمي والأدب الروسي ،
للأديب الروسي أنطون تشيخوف ، كتبها عام 1889م ،
ما يميز القصة هو عمق الفكرة ، وأن حرية العقل وحرية الفكر أثمن ما يملكه الإنسان .
قصة الرهان
بداية أحداث القصة :
في واحدة من ليالي الخريف المظلمة ، أخذ المليونير العجوز يتجول فى غرفته ذهاباً وإياباً ،
مسترجعًا ما حدث معه منذ خمسة عشر عامًا في الحفل ؛ الذي أقامه بحضور كبار المفكرين ، والعديد من الشخصيات المرموقة .
حيث دار في ذلك الوقت حوارًا أثار الكثير من الجدل عن عقوبة الإعدام ، ومدى أخلاقيتها ؟ وإن كانت هي الأفضل أم عقوبة السجن مدى الحياة ؟
ذكريات قديمة :
كل تلك الأفكار أخذت تعبث بمخيلة الرجل ، وتذكره بالحوار الذي دار وقتها ؛ حيث استنكر العديد من المفكرين تلك العقوبة ، واعتبروها متنافية مع تعاليم المسيحية .
فلا يحق لأحد أن يسلب الروح من الجسد ؛ فالخالق وحده من يستطيع ،
وكانت الغالبية العظمى من الحضور ترى أن استبدال العقوبة بالسجن مدى الحياة هو الأمر الحق ،
حينها اعترض المليونير الذى كان الشباب مازال يسري في أوصاله قائلًا :
أنا لم أجرب عقوبة الإعدام ، وكذلك السجن مدى الحياة ، ولكني أعتقد أن الإعدام أكثر رحمة ، وأخف ضررا ،
فمن الجيد أن تقتلني الآن بدلاً من أن تقتلني كل يوم ببطء شديد ، هنا قاطعه أحد الضيوف قائلاً :
كلا العقوبتين لا يمت للرحمة بصلة ؛ فكلاهما غير أخلاقي ؛ فالغاية فيهما واحدة ، وهي فصل الروح عن الجسد ،
فالمحكوم عليه بالإعدام ميت ، والمحكوم عليه بالسجن مدى الحياة في حكم الميت .
بداية الرهان :
أثار هذا الجدال حفيظة محامي شاب فى مقتبل العمر ، لم يتخطى سن الخامسة والعشرين بعد ،
فقال حينما سألوه عن أي الأمرين أفضل ؟ أن كلاهما عمل لا أخلاقي ، ولكنه إن خير بينهما لاختار السجن مدى الحياة ،
فعلى الأقل سيعيش ، سينبض قلبه حتى إن كان هذا النبض حبيساً خلف أسوار مغلقة.
على الأقل سيتحدث ، سيتعلم ، لن تقف قصته عند هذا الحد ، سيكون لها بقية تروى ، هنا ثار المليونير المتعجرف غاضباً ،
وأخذته الحماسة كثيراً فضرب بيده على الطاولة الممتدة في ردهة القاعة أمام الحضور طالباً من الشاب أن ينفذ ، ما قال مقابل رهان يتم الاتفاق عليه.
وأعلن أنه سيمنح ذلك الشاب مليونين مقابل أن يقضي خمس سنوات في السجن الانفرادي ، نقاش حاد رد الشاب عليه قائلًا :
إن كنت تعي فعلاً ما تقول فأنا سأقضي خمسة عشر عامًا ، وليس فقط خمسة أعوام ،
تعجب المليونير كثيرًا من حديث هذا الشاب ، واعتبره مدعاة للسخرية ، ولكنه وافق على الرهان .
وأعلنها أمام الجميع قائلا : أيها السادة أنا أراهن بمليونين مقابل أن يراهن هذا الشاب بحريته ،
وبالفعل سرى ذلك الرهان بين المليونير الطائش الذي كان فرحًا بحسابه البنكي ، وغروره الزائف ، وبين المحامي الذي بهره سحر المال ؛
فجعله يتنازل عن حريته الغالية .
لم يتوانى الرجل صاحب الأرصدة الممددة في البنوك عن السخرية من قدرة الشاب على تحمل ألم العزلة ، ولو لسنه واحدة ،
أو سنتين على الأكثر ، فقد كان متأكدًا أن الشاب لن يكمل الرهان ، وسيخرج حتما قبل انتهاء المدة ؛
فأخذ يدعوه للتفكير مرارًا وتكرارًا قائلا له : أنا غني ولدي من المال الكثير ، و لن يضرني إن خسرت مليوناً أو اثنين .
أما أنت فمازلت شابًا أمامك من العمر الكثير ، لماذا تضيعه في السجن ؟ أحلى سنوات العمر والشباب ما زالت في انتظارك ،
فهل ستضحي بها من أجل إثبات وجهة نظر قد لا تكون عينَ الصواب ؟ .
أخذ المليونير المترف يذكره بشروط الرهان ، ومدى مشقتها ، وأن مجرد التفكير في نقضها هو إثبات لخطأ رأيه في أفضلية عقوبة السجن مدى الحياة ،
ومع ذلك ظل الشاب متمسكًا برهانه غير عابئ بكل ما قال.
بداية الرهان وشروطه :
شروط الرهان في الرابع عشر من نوفمبر عام 1870م ،
في الساعة الحادية عشر تقرر أن يمضي الشاب خمسة عشرًا عامًا من عمره تحت الرقابة الجبرية في حديقة المليونير :
صاحب الرهان على ألا يخرج من باب الحجرة نهائيًا لرؤية الناس ، أو الحديث معهم ، فقط هي نافذة صغيرة مطلة على حديقة المنزل ،
تسمح بمرور بعض نسمات الهواء غير العابئة بذلك الرهان التافه ، فالهواء حر لا يعرف القيود .
واشترط المليونير أيضا عدم استلامه للرسائل أو الصحف ، فقط منحه ألته الموسيقية ،
وبعض الكتب التي قد يطفئ بها نيران عزلته ، ومنحه الحق في اقتناء الخمر ، والتدخين ، وكتابة الرسائل ، فقط هذه البنود هي كل ما امتلك ذلك البائس من حطام العزلة .
كما نص الرهان أيضا على عدم خروجه قبل الرابع عشر من نوفمبر من العام 1885م على الساعة الحادية عشر .
وإن حدث وخرج قبل ذلك ، ولو بدقيقتين ؛ فسيتم إلغاء الرهان ، ولن يحق له الحصول على سنت واحد من المال ،
في سنوات الأسر عانى الشاب كثيرًا في السنة الأولى من الأسر ، فالعزلة ليست بالأمر الذي يسهل اعتياده ،
فهي كالمرض يهاجم ، ونقاوم ، إلى أن يستسلم لنا ، أو نستسلم له.
حال سنوات السجن :
ظل الشاب يقاوم الاكتئاب ، والحزن بالعزف على البيانو الجاسم ، في وسط الغرفة المظلمة ،
فعلى مدار العام الأول لم ينقطع صوت الألحان الخارجة ، من تلك الغرفة ، فقد كانت الطيور على الأشجار تطرب ، كما يطرب المار عبر الحديقة .
وتدريجيا بدأ ينقطع عن الخمر قائلا : أنه يثير الشهوات ، والشهوات هي أشد أعداء السجين ضراوة ،
لجأ إلى القراءة الكثيفة ليضع فيها همه ؛ فطلب من صاحب الرهان جلب كتب الشخصيات الشهيرة ، وقصص الحب الممتعة.
في السنة الثانية لم يعد للبيانو صوت مسموع ، فقد خفت كما خفتت حماسة الشاب ، كل ما طلبه في هذا العام اقتصر فقط على الكتب ، والدراسات القديمة .
توالت السنوات ببطء شديد ، بطء لا يشعر به إلا من فقد عمره مع الوقت ، إلى أن جاءت السنة الخامسة ،
والتي توقع فيها المصرفي صاحب الملايين أن يتراجع الشاب القابع في الغرفة المظلمة عن رهانه المميت .
إلا أن هذا لم يحدث ؛ فقد عاد الأسير لشرب الخمر مرة ثانية ، ولم يفعل شيئًا في هذه السنه سوى النوم والأكل والشرب ،
كثيراً ما كان يكتب بالليل ، ولكنه في الصباح كان يمزق كل ما كتب .
الرسالة الأولى استمر الشاب على هذا الحال حتى النصف الثاني من السنه السادسة ؛ فبدأ يدرس الفلسفة واللغات بشغف شديد ،
وكأنه مشتاق إلى المعرفة ونهم العلم ، فقد وصلت قراءاته في الأربع سنوات الأولى إلى ستمائة مجلد .
وفي هذه الأثناء تلقي المليونير من المحامي الشاب الرسالة التالية :
سجاني العزيز أكتب إليك رسالتي هذه بست من اللغات المختلفة ، أعرضها علي المتخصصين في اللغة ، فإن وجدتها خالية من الأخطاء ،
مر حراسك بإطلاق النار في الحديقة ؛ حتى أعرف إن كانت سنين العمر قد ضاعت بلا فائدة ، أما أنني قد استفدت من عزلتي .
مرت فترة قصيره ، وانطلقت الطلقات مدوية في هواء الحديقة ، فأدرك الشاب حينها أنه أتقن اللغات جيدا ،
وأن عزلته لم تذهب سدى ، مرت الأعوام الواحدة تلو الأخرى والشاب لا يفارق غرفته حتى يخيل للمار من أمامها أنه جزءاً أصيلاً منها.
إلى أن مرت السنة العاشرة فأمسك بالإنجيل وكأنه أول مرة يراه ،
بدأ يقرأ ثم يقرأ ثم يقرأ، وكأنه يبحث عن شيء بعينه ، تعجب المصرفي صاحب الرهان من ذلك الشاب الذى قضى ما يقرب من ستة أعوام في قراءة ستمائة مجلد .
وفى نفس الوقت لم يقرأ سوى الإنجيل في ما يقرب من عام ،
في أخر سنتين من مدة الرهان كان الشاب قد قرأ كمية كبيرة من الكتب في شتى العلوم الطبيعية والفلسفية ،
حتى أنه طلب الأعمال الكاملة لشكسبير ، وبايرون ، بالإضافة إلى أنه كتب في الطب والكيمياء ، وتعمق في علم اللاهوت .
لقد كان يقرأ بنهم شديد كغريق تعلق بحافة سفينته الغارقة ، كان يحاول أن ينتزع النور من باطن الظلمة ،
أراد أن يخلق عالما غير الذي يعيش ، وها قد استطاع ، فكرة في منتصف الليل تذكر المليونير العجوز كل هذا .
بداية نهاية مدة السجن :
وفكر ، لم يبقى على انقضاء المهلة غير ساعات ، ساعات قليلة ويخرج الأسير من أسره حاملا معه المليونين كما وعده ،
ولكن كيف! وهو لم يعد يملك سواهم ؛ فقد خسر على طاولات القمار الكثير والكثير .
تدنت أسهمه ومعها تدنت ثروته التي كان يتباهى بها ويراهن حتى على أتفه الأشياء ، والشاب مازال في الأربعين من عمره ،
سيخرج ويتزوج وينطلق في الحياة ليعوض كل ما فات .
لم يجد العجوز حلا سوى فكرة مجنونة طرأت على ذهنه : ماذا لو مات الشاب ؟ حينها سيبقى كل شيء على وضعه ،
ولن يخسر العجوز شيئًا ، لم يفكر كثيراً ، فالكل نيام والحديقة هادئة ، لا أثر للحارس على الباب ،
لابد أنه قد ذهب ليحتمي من البرد القارص بجوار المدفأة .
خرج العجوز حاملا مفتاح الغرفة اللعينة ، وأخذ يسير بخفة لاعب سيرك ممشوق القوام حتى وصل إلى الغرفة ،
كان الظلام بالأسفل يحمل رائحة الخوف ، كيف تحمل الشاب العيش هنا من أجل فكره ؟ أو حتى من أجل المال ؟ .
كلها أسئلة دارت في ذهن العجوز قبل أن يفتح الباب ، مشعلاً عوداً من الثقاب ،
لم يرى سوى هيكل عظمي مكسو بطبقة من الجلد ، ألقى بوجهه الشاحب على الطاولة المستديرة بجوار النافذة ،
الوجه الذى رآه لم يكن لشابًا في الأربعين فالشعر الأشعث فضي اللون جعله كما لو كان في الستين من عمره .
الرسالة الأخيرة نظر إليه وقال في نفسه : إنه نائم ، لابد أنه يحلم بالملايين التي سيجنيها ،
كل ما علي فعله أن ألقيه على سريره المتهالك ، وأكتم أنفاسه بتلك الوسادة ، وسيظن الجميع أن الحارس من فعل ذلك ،
وقبل أن يهم بفعلته ، شيء ما لفت انتباهه ؛ فقد رأى على ضوء الشمعة الخافت ورقة كتب عليها الشاب رسالة بخط رفيع .
فقرأ ما بها قائلا : غدًا عند الحادية عشر سأستعيد حريتي ، سأترك تلك الجدران التي انطبعت على ملامحي ،
سأرى نافذة غير تلك التي أنستني في وحشتي ، سأسمع صوتًا غير صوت نوبات الحراسة وقت استلام العمل ،
دعني أيها السجان أخبرك شيء بضمير طاهر ، يشهد الإله على صدقه .
إنني أحتقر الحرية ، والرخاء ، وكل الترف الموجود بالدنيا ، لقد أمضيت طيلة خمسة عشرًا عامًا وأنا أدرس الحياة الدنيوية ،
أنا بالطبع لم أستطع أن أحياها ، ولكني انغمست فيها .
ففي كتبك شربت الخمر الأرج ، وعشقت النساء الحسناوات اللائي اختلقتهم مخيلة الكتاب والشعراء ، اصطدت الأيل في الغابات ،
أنشدت الأغاني ، تعلمت اللغات ، تسلقت قمم الجبال ، وشاهدت السماء عن قرب ، رأيت الحقول الخضراء ، والبحيرات ،
والأنهار ، والمدن ، سمعت غناء جنيات البحر ، وأناشيد الرعاة.
لمست أجنحة الشياطين التي حلقت فوقي ، في كتبك أيها السجان رميت نفسي ، فعلت المعجزات ، وبشرت بأديان جديدة ، قتلت ، وأحرقت المدن البائسة .
درس لا ينسى لقد منحتني كتبك الحكمة ، حتى خلقت عالمًا يفوق قدرتك على التخيل ، لقد صنعت نفسي ، وأنت كما أنت .
لقد فقدت صوابك ، واتخذت الطريق المنحرف ، وأثرت القبيح على الجميل ، أنا أتعجب كثيراً كيف استطعت أن تستبدل الجنة الخالدة بالدنيا الزائلة ،
أنا أحتقر دنيتك ، ولأثبت لكَ احتقاري لها سأغادر قبل انتهاء المدة مفسداً ذلك الرهان اللعين .
متنازلاً لك عن المليونين ؛ فأموالك لم تعد مأربي ، حينما انتهى العجوز من قراءة تلك السطور أخذ يبكي مقبلًا رأس الشاب النائم ،
وانصرف مدركاً لهذا الدرس الذي لقنه اياه ذلك الجسد المتهالك .
هروب مصطنع في اليوم التالي جاء الحارس يصرخ فزعًا : سيدى لقد هرب الشاب متسللاً عبر النافذة إلى أسوار الحديقة الخلفية ،
كتمها العجوز في نفسه ، وتظاهر كما لو أنه قد تفاجئ مما حدث ، وذهب برفقة الحارس إلى الغرفة المظلمة ، التي طالما أضأتها مجلدات الكتب.
وهناك رأى الرسالة ملقاة على طرف الطاولة فحملها متثاقلًا وانصرف إلى غرفته مفكرًا في كل ما حدث .
إقرأ المزيد من القصص على موقعنا