لكل قاعدة شواذ ، هكذا تعلمنا منذ الصغر ، فليس كل ما يحدث دائمًا ، يصبح قاعدة أساسية لا يشذ عنها شيئًا ، وهذا الأمر ينطبق على الملوك وحياتهم المرفهة والكريمة ، بعيدون كل البعد عن شظف العيش ، الذي يعاني منه المواطنون العاديون ، ولن يتوقع أحد منا أن هناك بعض الملوك ، الذين عاشوا فترات عصيبة ، على الرغم من ملكهم الواسع ، فمنهم من لم يحظ بالرغد والمعيشة الكريمة ، مثل الملكة خوانا .
ذكر الكثير من المؤرخون ، بأن التحالفات الأوروبية إبان فترة القرن السادس عشر ، كانت تتم عن طريق الزواج بين العائلات ، نعم يتم تزويج الأمراء والأميرات من أجل تحالف ما ، هكذا بكل بساطة ، وكان هذا الأمر يؤمّن لكل من الطرفين ، حياة آمنة سياسيًا واقتصاديًا لفترات طويلة ، خاصة وأن الحق الملكي كان يتم رأسيًا ، بين الأمراء والأميرات مما أتاح للكثيرين منهم ، ضم العديد من الممالك الكبرى فيما بينهم .
وعلى هذا النحو اتجهت أنظار أوروبا ، في فترة القرنين العاشر والحادي عشر ، نحو الأندلس المسلمة ، وكانت هي الأولى بالعداء بالطبع في هذا الوقت ، فتزوج كل من اراجون فرناندو والملكة إيزابيلا ملكة قشتالة ، واتسعت ممتلكاتهما ، وانطلقا في رحلات استكشافية عبر البحار ، كانت هي شعلة الاستعمار الأولى ، التي وُلدت لتستمر موجات الاستعمار بهذا الشكل فيما بعد .
كان فرناندو وإيزابيلا متعصبان دينيًا بشدة ، وعُرف عنهما هذا الأمر ، وبالتالي كان أغلب ضحاياهما من المسلمين واليهود في هذا الوقت ، وكان الملكان قد أنجبا خمسة أبناء ، ولكن لم يمهلهم القدر فماتت ثلاثة فتيات من الأربعة ، ثم مات الصبي الوحيد بينهم أيضًا ، وبقيت إبنة واحدة تدعى خوانا كانت هي الوريثة الوحيدة ، لمملكة والديها الممتدة من إيطاليا وحتى إسبانيا .
قرر فرناندو وإيزابيلا تزويج ابنتهما خوانا ، من الملك فيليب الوسيم ، والذي كان قد بسط ملكه على كل من بلجيكا ولوكسمبرج وهولندا ، وكان فيليب هذا ينتمي إلى عائلة عريقة جدًا في لوكسمبرج ، ولكن للأسف كان خائنًا ولم يحب خوانا أبدًا ، بل كان يخونها منذ أول ليلة لهما واستمر في هذا طويلاً ، فلم يكن له هدف سوى ممتلكاتها ، التي سوف تصبح ميراثًا لها فيما بعد .
كانت خوانا قد عُرفت بالإلحاد ، منذ أن كانت في مملكة والديها ، هذا الأمر الذي دفع والدتها إلى تعريضها لعذاب قاس ، نظرًا لعلاقتها السيئة بالقساوسة ، وعدم رغبتها الدائمة في حضور أي طقس ديني ، واستمرت خوانا في هذا الأمر ، حتى بعد زواجها مما دفع الكثيرون إلى الحديث بشأن إلحادها ، وعرّضها هذا الأمر إلى الكثير من التعذيب والمضايقات ، وعلى الرغم من ذكر المؤرخون لغرابة أطوار خوانا ، إلا أن أحدهم لم يتهمها بالجنون من قبل .
أنجبت خوانا من زوجها فيليب ، ولدًا أصبح له فيما بعد شأن عظيم ، وهو الإمبراطور شارل الخامس ، الذي حصد في مملكته ، نصف العالم المأهول ، وحدث أن توفيت والدة خوانا ، فكان للأخيرة أن آلت ثروة أمها لها فقط ، وفقًا لقوانين هذا الزمان ، فحاول زوجها ووالدها إقصائها عن نيل هذا الملك الواسع ، فاتهموها بالجنون وفرضوا عليها وصايتهما ، وبالفعل نجح والدها في سجنها بقلعة صخرية عقب وفاة زوجها فيليب ، وقام بالاستيلاء على كافة ممتلكاتها ، وسجنها طيلة 16 عامًا ، تعرضت خلالها لكافة أنواع التعذيب لإثنائها عن الإلحاد ، واعتناق المسيحية .
فيما تجاهلها ابنها شارل ، الذي سجنها هو الآخر عقب وفاة فرناندو ، وبنى لها قلعة خاصة تدعى ماركيز دينايا ، قام خلالها السجان بالوفاء بتعليمات ابنها شارل ، وقام بكافة أنواع التعذيب نحو خوانا .
وفي عام 1520م اندلعت ثورة في قشتالة ، كان هدفها عزل قشتالة عن بقية الممتلكات ، وبالفعل نجحت الثورة وتم اعتقال السجان ، وإطلاق سراح خوانا ، وعقب أن تأكد الثوار من عقلها التام وعدم جنونها ، طلبوا منها مساندتهم ولكنها رفضت أن تقف ضد ابنها ، الذي ما أن عاد حتى استطاع إخماد تلك الثورة ، ولم يتورع عن سجن أمه مرة أخرى ، بمعرفة سجانها دينايا مرة أخرى!
هنا انتقلت خوانا إلى سجن جديد ، في عام 1520م ولم تخرج منه سوى بعد وفاتها في عام 1555م ، تلك الملكة التي ظلت حبيسة السجون على أيدي ، زوجها وأبيها وابنها ، وتم تعذيبها بقسوة شديدة طوال تلك الأعوام ، طمعًا في ملك لم تنله يومًا سوى بالاسم فقط .