كانت محاضرة طويلة بعض الشيء ، لكنها قيمة ومفيدة جدا للطلاب في كلية التاريخ ، الذين كانوا يستمعون إليه بانتباه وتركيز شديدين فهو البروفيسور المشهور الذي جال العالم طولا وعرضًا وحاضر في أشهر الجامعات .
المحاضرة والمحاضر :
كانت المحاضرة حول الشعوب والقبائل والأعراق البشرية وتطورها في الماضي والحاضر وبالذات الشعوب والقبائل الإفريقية ، وبلغ من أهمية المحاضرة أهمية المحاضر ، إذ كان من الحضور أساتذة الجامعات والباحثين والكتاب ، وما أن انتهت المحاضرة ، حتى علا التصفيق بين جمهور الحضور ، إعجابا بالمحاضرة والمحاضر والفائدة الثقافية والعلمية التي نجمت عن ذلك .
بدء الأسئلة :
أعطى المشرف على المحاضرة ، إشارة البدء بالأسئلة لعموم الحضور الذي بدأ بعض أفراد الأسئلة ، كان البروفيسور يجيب على الأسئلة جميعها ويناقش بعضها بطريقة علمية ويقدم المعلومات المفيدة والأدلة والبراهين الداعمة .
تشوشوكاكي :
فجأة رفع طال من الصفوف الخلفية ، يده للسؤال ، وعندما أشار له المحاضر بالإيجاب قال : .. سيدي ، لقد قرأت في الصحف منذ فترة عن قبيلة في إفريقية تسمى ، تشوشوكاكي ، وهذه القبيلة كما قيل تقوم ببناء معبد لها وبعد فترة تقوم بهدمه ! ثم بعد ذلك تقوم ببنائه من جديد ثم تقوم بعدها بهدمه وإعادة الكرة ، وهي عادة معروفة لديهم منذ تاريخ نشؤها ، فما هو السبب في ذلك ، وما هي معلوماتكم عن هذه القبيلة ، إذا تكرمتم !
سؤال محرج :
كان السؤال محرجًا للبروفيسور ، فهو لم يُسمع يومًا عن قبيلة بهذا الاسم طوال حياته وفترة دراسته ، وهاهو اليوم أحدهم يسأله عنها أمام جمهور غفير من الناس ! لكن وبالرغم من ذلك فان شخصيته ومرتبته العلمية الرفيعة لم يمنعاه من أن يقول بكل تواضع وثقة أمام الحضور في الواقع يا بني هذه أول مرة اسمع بهذه القبيلة ، أنت تعلم والحضور كذلك ، الإنسان معها تعلم وتحصل على المعرفة يبقى هنالك أشياء يجهلها ، وعلى كل حال ، أعدك أن أستقصي عن هذه القبيلة واستعلم عنها وأخبرك بالنبأ اليقين حولها ، أرجو أن تترك لي عنوانك وهاتفك لدى إدارة الجامعة ، كي أتمكن من التواصل معك فيما بعد .
غرائب الشعوب :
ما ان انتهت المحاضرة وغادر الجميع ، حتى اتجه البروفيسور إلى المكتبة العمومية في الجامعة حيث يوجد شبكة للانترنت ، وهناك فتح حاسبه المحمول وبدأ البحث عن قبيلة تشوشوكاكي ، المزعومة تلك وكان ينتابه شعور خفي ، بأنها غير موجودة ولا يعلم بها .. وبالذات وأن تخصصه الأساس هو الشعوب الإفريقية أظهر له محرك البحث معلومة بسيطة جدا عن قبيلة تشوشوكاكي ، أعاد البحث في النت مرة أخرى فوجد موقع يتحدث عن غرائب الشعوب ووجد معلومة بسيطة أخرى عن هذه القبيلة وعن الدولة الإفريقية التي هي فيها ، جاء في الموقع ما فاده تشوشوكاكي قبيلة إفريقية تقع في مجاهل غابات افريقية وتتسم بظاهرة غريبة هي بناء معابد خاصة بها من الطين وهدمها بعد فترة ثم إعادة بناءها .
السبب غير معروف :
عاد الرجل إلى المنزل وأخذ يبحث في الكتب والمراجع المتوافرة لديه ، عن قبيلة تشوشوكاكي فوجد في أحد المراجع شذرات بسيطة عنها ، ضرب بيده على رأسه وقال : فعلا يبقى الإنسان ناقص علم ومعرفة مهما تعلم وقرأ ولكن ما قصة هذه المعابد التي يبنوها ويهدموها وهل هذه الحقيقة مؤكدة فعلا ! اتصل بعدد من زملاؤه في الدراسة والبحث العلمي .
فلم يجد نتيجة شافية وافية مؤكدة ، واحد منهم أخبره أن ذلك غير صحيح لكنه لا يعرف السبب الذي ربما يكون سببا عقائديا دينيا أو ربما عرفا اجتماعيا متوارثا من الأجيال السابقة لديهم ، لكن لا أحد يدري بالضبط قصد الرجل سفارة الدولة الإفريقية التي تتواجد بها هذه القبيلة واستعلم عنها ، ولكنه حصل على النتيجة بذاتها .. السبب غير معروف .
الأرق والحرج :
يوما بعد يوم ، شكلت قضية معابد قبيلة تشوشوكاكي أرقًا فكريًا، ونفسيا للبروفيسور الذي لم يكن معتادًا على تجاهل الحقائق العلمية والمعلومة التاريخية ، مهما صغر حجمها ، ومهما تضاءلت أهميتها ، فرجل مثله لابد أن يكون ملمًا بكل شيء ، يكفي أن هذا السؤال قد شكل لي حرجًا أمام الجمهور في المحاضرة ، قال في نفسه.
السفر لاكتشاف الحقيقة :
أخيرا وبعد مخاض نفسي عنيف قرر الرجل السفر بنفسه إلى افريقية وتحديدًا إلى قبيلة تشوشو كاكي ، ومعرفة السبب الحقيقي من مصدره الأساسي ، قدم طلبا للفيزا من سفارة تلك الدولة الإفريقية فحصل عليها فورا مع تسهيلات وتوصية كونه شخص ذا درجة علمية مرموقة ، عندما وصل مطار الدولة الإفريقية وكان بانتظاره سيارة خاصة لتقله إلى الفندق الذي كان ينتظره فيه دليل سياحي إفريقي خاص لمساعدته في رحلته تلك ، وفي غرفة بالفندق ، لم يضيع الرجل وقتًا فقد جهز أدواته ونفسه للسفر صباح يوم الغد إلى موقع قبيلة تشوشوكاكي مع الدليل السياحي .
خارج التاريخ :
كان الجو حار جدًا ، عندما وصلت سيارة الدفع الرباعي إلى أحد الأدغال حيث تناثرت أكواخ عدة من القصب والأوراق اليابسة في المكان ، ترجل البروفيسور من السيارة وألقى نظرة فاحصة على المكان ، وأحس أنه خارج التاريخ وأنه عاد وربما إلى ألفي عام للوراء ! لم يكن هناك أي أثر يدل على حضارة المدينة أو بشرية حديثة سوى بعض أكوام الحجارة والطين التي كان واضحًا بلا شك أنها هي نفسها المعابد المذكورة ، تجمهر عدد من الفتية الصغار حول السيارة والزوار القادمين بدهشة فضول ، وما لبث الجميع أن ذهبوا إلى خيمة رئيس القبيلة .
زعيم القبيلة :
في الخيمة قدم البروفيسور الهدايا لرئيس القبيلة الذي كان رجلا طاعنا في السن وبالكاد يبصر ، وبعد مجاملات التحية ، دخل في الموضوع الذي جاء لأجله مباشرة وسأل زعيم القبيلة عن سر المعابد وسر هدمها وإعادة بناءها من جديد !
سر هدم المعابد :
ما أن انتهى المترجم من نقل كلام الرجل إلى زعيم القبيلة ، حتى هز الأخير برأسه مبتسمًا وقال بهدوء ، قصة المعابد يا سيدي هي أنه يوجد لدينا عرف أو قانون قديم في قبيلتنا هذه ولا أعرف إن كان موجودًا في مكان آخر أو قبيلة أخرى ، والقانون يقول إنه كلما صح صلح ألف رجل من قبيلتنا بيننا لهم معبدا صغيرًا من طين خاص بهم ، وإذا فسدوا .. هدمنا المعبد لأنه بنظرنا عجز عن إصلاح الناس ، بل وساهم في إفسادهم وكذبهم ونفاقهم ولأنه لم يؤد دوره بالشكل المطلوب والمفترض منه .
رمز الصلاح ورمز الفساد :
فالمعبد بنظرنا هو للأشخاص الصالحين ، ولجعلهم صالحين ، فإذا تحولوا فاسدين بعد صلاحهم علمنا ان المعبد قد فسد أيضا بدوره ، فنقوم بهدمه فورا كي لا يتحول إلى سرطان يصعب اجتثاثه وهدمه فيما بعد .
المعبد بنظرنا أيها السيد البروفيسور هو رمز لوجود صلاح في القبيلة وأداة لتثبيت هذا الصلاح وليس خلقه! المعبد أيها السيد لا يخلق صلاح بل هو مكان لاجتماع الصالحين ، فالصلاح يأتي من الشخص نفسه وما رباه والديه عليه لا من المعبد ، وإذا انتشر الفساد في القبيلة ، أضحى من الخطر وجود المعبد لأنه سيصبح في نظر أفراد قبيلتنا ، رمزًا للفساد وهذا ما لا نريده حتمًا .
انحناءه طويلة واحترام :
شكر البروفيسور زعيم القبيلة على ما تفوه به ، وودعه ثم اتجه إلى السيارة برفقة من معه ، وعندما أراد الصعود استدار ونظر إلى أفراد القبيلة البدائيين المتجمهرين ، حوله يحملقون به بدهشة واستغراب ، رفع قبعته ثم انحنى لهم انحناءه طويلة وغادر المطار حيث كانت الطائرة بانتظاره للعودة .