الهدوء الذي عم ساحة القرية أيام متوالية لم يكن مألوفا ، قطيع الثيران والأبقار اختفى واختفت معه العجوزان ، حركة ملحوظة داخل الاسطبل ، فالمكان يتوسط الساحة رغم محاولات سكانها الحثيثة لإخلائه وتنظيفه من الروث والأوساخ .
مقاومة العجوزتان :
ذهبت جهودهم سدى لأن العجوزين أظهرتا شراسة قاتلة في الدفاع عن مكانهما ، حين جلب أحدهم قرار من المحافظة بهدم الاسطبل ، قيل أنهما دفعتا الكثير من لإبطال مفعول القرار ، وما يثير الاستغراب الآن واختفاؤهما المفاجئ .
الغريبتان :
كان خروج القطيع صباحًا وسط الأزقة ، وعودته بعد ساعات ، ثم ذهاب العجوزين بوعائيين كبيرين من الحليب إلى المدينة القريبة ، وعودتهما ظهرًا بتكشيرة مخيفة ، طقسًا يوميًا مألوفًا ، لدرجة أن أهالي القرية إذا أرادوا تحديد موعد دقيق مهم كانوا يقولون قبل خروج الغريبتين صباحًا ، أو عند عودة الغريبتان ظهرًا ، لذلك تساءل الجميع بخوف عما يجري .
سبب اختفائهما الحقيقي :
لخمسين عام سبق لم يحدث أي طاريء أوقف العجوزين عن عملهما ، رغم المصائب التي كانت تلم بالقرية بين وقت لآخر، بعضهم سخر من غيابهم ، تندروا بأنهما تقضيان أوقتًا ممتعة مع ثيرانهما ، آخرون قالوا بأنهما يحفرون قبريهما داخل الاسطبل ، وكثير من الأقاويل صار يطلقها شباب القرية عليهما ، ولم يخطر ببال أحد سبب اختفائهما الحقيقي .
رائحة الموت:
في اليوم التالي ، صار هيجان الثيران لا يطاق مما جعل سكان البيوت المجاورة يقررون خلع باب الاسطبل ، اجتمع الرجال وشكل الصغار والنسوة نصف دائرة حول المكان ، فتح رجل باب الاسطبل وتراجع الجميع للخلف !!
ثم تفرقوا برعب ، اندفعت الثيران بجنون ، مصطحبة معها رائحة كريهة ومنفرة ، جعلت بعض النسوة يتقيأن ويعدن إلى بيوتهن ، بدا المشهد مثيرًا ، خرج الثور الأبيض وقد تعلقت برجله جثة العجوز ، كان المشهد ساخرًا وخفيًا حقاً ، لكن الثياب المعروفة للجميع ، والتي تحمل كتلة لحم ممزق أغرقتهم في الصمت .
الغريبتان :
كان لهما طريقة خاصة باللباس تستر كل جسديهما ، فلا يبدو سوى محيط المائل إلى الأزرق ، حتى في الصيف كانتا ترتديان الأكمام الطويلة ، والأثواب الفضفاضة وتلفان شعريهما بخرق ملونة ، ونادرًا ما شوهدتا بغير ذلك ، وكأنهما ولدتا على هذه الشاكلة ، عجوزتان قذرتان بثياب غريبة ، ويروى أن رجلا عجوزا طاعنا في السن ذكر أن امرأة جاءت إلى القرية ذات شتاء ، تحمل جوعها وبطنها المنفوخ بهاتين البنتين وكانت تلك المرأة ترتدي ثيابًا شبيهة بثياب العجوزتين .
ابتعاد أهل القرية :
لم تخرج حياة العجوزتين من نطاق تربية القطيع ، وتحية الصباح التي كانتا تلقيانها على الجميع ، ازدادت غربتهما سنة بعد أخرى ، وإذا خطر لأحد الاقتراب منهما ، كن يغرقنه بالسباب والشتائم ، فابتعد الجميع عنهما ، لأن الشيء الوحيد الذي سينالونه هو الرائحة الكريهة واللعنات .
الجثث والخلاص :
لم يتوقف الثور الهائج ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منه بقي هائمًا في الأرض يجر الجسد الممزق حتى المساء ، استطاع أحد الرجال أن ينتزع الجثة المعلقه بين قدميه ، بعد أن كم أنفه وجسده ، وضعها على كيس كبير من النايلون وحملها الرجال إلى الساحة ، أما الجثة الثانية للعجوز الأخرى ، فكانت متكورة على نفسها مغطية وجهها بيدها ، يابسة منفوخة ، لم يسأل أحد كيف حدث ذلك ، كانت الفرحة تشع من عيونهم بعد خلاصهم من قذارة العجوزتين ، اطمأن الناس لنظافة القادمة ، ولم يدرك أحد أي لعنة ستحل بهم بعد معرفتهم السر .
اللعنة :
ركضت النسوة وخرجن محمومات من غرفة الموتى الخاصة ، إحداهن كانت تبكي والأخرى مذهولة ، أما الثالثة التي نطقت بعدة كلمات فقد غرقت بسبات لأيام عدة ، أمر شيخ القرية بدفن العجوزتين خارج مقبرة القرية ، وأغلب الناس اعتبر أن ما حدث نذير شؤم ، سيصيب القرية لأعوام قادمة ، والقليل لم يصدق ما تفوهت به المرأة ذلك اليوم : يا إلهي ارحمنا إن لهما جلدًا أسود قاسيًا … وحول خصريهما يلتف ذيل أسود ، طويل .. يا رب .. العالمين !!!… ولم تكن تلك الحادثة سوى البداية .