على ربوة غير بعيدة عن الأنظار ، ارتفعت فوق أرض القبور المقبية بعضها سليم قائم بحجارته ، وترابه رغم الزمن الطويل وبعضها مفتت زائل ، قد ذهب ترابه وتبعثرت حجارته وأحنى هامته للأرض فاستوى اياها ، كثير منها بعلو الربوة وينحدر بانحدارها ، ويتجه صوب الشرق والغرب حتى لنكاد نحسب الأرض كأنها قبر واحد ، احتوى عددًا هائلا من الخلق .
نحيب ورثاء :
كانت عجوزًا واحدة قد اقتعدت حجرًا كبيرًا ، تنتحب بصوت خافت ضعيف وتقول شيئًا حزينًا مؤسفًا بلغة غير عربية أن ابنها أو أخاها أو شيئًا من هذا ، نال غصص الدنيا ومتاعبها ثم سكن هنا سكنته الأخيرة ، وكلما أعياها النحيب وأتعبها الرثاء هجمت على علبة سيكائرها النحاسية فأخذت سيكارة طويلة ذات عقب وأشعلتها في فمها ، البؤس شيء مألوف في كل مكان ، كزئير منه في الشمال وكثير منه في الجنوب !
طبل وزمر وفرحة الصغار :
كانت أصوات مزعجة منبعثة من الحارات المجاورة الضيقة ، صوت طبل كبير يقرعه شاب بلدي ، يسير وراء لوحة السينما وأمامه رجل ينفخ بمزماره ، قد انتفخ خداه وزاغت عيناه وارتفع الدم إلى وجهه ، يقطع هذا الموكب الأزقة يدخل واحدًا ويخرج واحدًا ، واللوحة تدور في الفضاء عليها رجل أسود شاهرًا سيفه ، يقفز من فوق حصان ، الأولاد قد خرجوا مهللين مبتهجين بهذا المشهد المؤنس ، يسيرون أمام اللوحة وورائها ، وقارع الطبل يوالي ضرباته الشداد ولا يبتسم في وجه أحد .
سينما القرية :
هي السينما الوحيدة في القرية ، مقاعدها كمقاعد المقهى من الدرجة الثالثة ، ولا يعرض فيها فيلم تتناسب أهميته مع تلميذ في الصف الأول الابتدائي ، أما النساء فقد أخرجن رؤوسهن من الأبواب الواطئة القديمة ، حتى لكنت ترى احداهن شابة في غير جمال ترضع طفلاً هزيلاً ، قد جثم على صدرها ، يبدو من محياها أنها انسانة تعيش خارج معسكر العالم ، قد قذفتها الدنيا هنا ثم ستنشلها من هنا وتذهب بها إلى الربوة الأبدية .
القبر المنقوش :
في أعلى الربوة قبرًا كبيرًا فخمًا ، عليه نقوش وألوان وأصباغ تظلله مظلة كبيرة ، تسندها إلى الأرض أعواد من الحديد ، أنه قبر انسان غني لا يريد أن يذهب عن هذا العالم ، إلا بشهادة على عناه فكان له ما كان وكان للآخرين ما كان ، وليس هذا كل شيء .
المقهى :
كان هناك صاحب مقهى رجل بطين ، أغبر الوجه ماكر النظرات ، أخذ طريقه تجاه الربوة ، يدفع بطنه أمامه ويتدحرج على الطريق كالكوة ، ما الخبر ؟.. إنه لخبر سار ، ان هناك من تمشى أمامه وتتجه هي الأخرى ، صوب الربوة ، امرأة هيفاء فارعة قد احتواها سواد جميل ، يعلو فوق رأسها وينساب بين قدميها .
حسناء القرية :
في هذه القرية الوادعة الساكنة ذات البؤس العظيم ، امرأة غانية لامعة لها كل هذا الطول ، وكل هذا الحذاء المزوق الفاخر ليجذب ورائها ، جيشًا من الرجال ، ولكن كان الرجل وحده يثبت خطواته على الأرض ، ويقفو أثر الحسناء ، إلى أين ؟
رجال المقهى :
إلى جوف المقبرة ، بين الحجارة المهدمة أو أكوام التراب ، هناك الملتقى ، لم تكن مقهاه خالية من الزبائن ، بل هي محتشدة احتشاد النمل ، يقوم بالخدمة فيها رجال يعملون بإخلاص ، وأمانة شديدين ويشهدون ربهم على اخلاصهم ، يجمعون للرجل البطين شيئًا كثيرًا يصرفه على مسرته ولهوه .
كل شيء قد انتهى بسلام :
وقبل أن تغيب الشمس ، كان كل شيء قد انتهى بسلام ، عاد الرجل البطين إلى مقهاه باسمًا ، بعد أن نال كثيرًا من المتعة بين القبور ، ولا يدري انسان هل سمع العجوز بنحيبها ، أم لم يسمع شيئًا ، انما الذي يدريه كل انسان أن حياتنا مقدرًا طيبًا عزيزًا من الفوضى والفساد .