ها هي أثينا ترسف في أغلال الوثنية ، الرجال متجمهرة ، الجلبة تملئ شوارع المدينة ، الكل منتظر ، والجماهير الغاضبة تهتف بإعدام سقراط ، سقراط الفيلسوف اليوناني الموحد بإله واحد ، الناقم على أصنام أثينا وعبدتها من أبناء وطنه .

ذلك الرجل الذي اتخذ من الفلسفة عملًا غير مأجور يوعي به الناس ويرشدهم إلى طريق الصواب ، فأخذ يصول ويجول من المناقشات الفكرية والحديث عن الأمور الوجودية والاجتماعية ، وأنزل الفلسفة من السماء إلى الأرض ، وهذا ما لم يعجب السفسطائيين والكثيرين من أهل أثينا الغارقة في الضلال ، لذا قرروا التخلص منه .

من هو سقراط :
هو أحد أعظم الرجال في عصره ، فيلسوفي يوناني شهير تتلمذ على يده أهم الفلاسفة ، وعلى رأسهم أفلاطون الذي نقل لنا الكثير عن حياة المعلم الأول سقراط ولد سقراط عام469 ق.م في أسرة تعمل بالنحت ، ولكن سقراط لم يهوى الاشتغال بشيء سوى المحاورات والتفكير وتلقي العلم ونشره .

وعلى الرغم من جمال روحه وسمو فكره لم يكن في وجه جمال فكان أفطس الأنف أجحظ العين ذو وجه ممتلئ بثياب رثة ، وكان سقراط يدور في شوارع أثينا يتحدث مع المارة والشيبة في أمور الحياة ، وكان غير سعيد في حياته الزوجية ، فحينما كان يسأله أحدهم عن رأيه في الزواج ، كان ينصحه قائلًا : تزوج فإن كانت امرأتك صالحة أسعدتك وإن كانت غير ذلك علمتك الفلسفة .

محاكمة سقراط :
تبدأ أحداث المحاكمة في عام 399 ق.م برجل في السبعين من عمره أجحظ العينين رث الثياب يرتدي معطفًا لا أزار له ويقف حافيًا ، جلمود كصخر لا يعبأ بكل هذا الصخب الذي يحيط به وفي الشارع الأثيني يتراص أمامه خمسمائة قاضٍ يبتون في أمره بعد سماع الإدعاء ، ولم يكن في نظام المحاكمات وقتها ما يعرف بالإدعاء العام بل كان صاحب الدعوة هو من يلقي بالاتهام .

فوقف ميلتوس يتحدث عن مفاسد سقراط في المجتمع الأثيني وتبعه في ذلك مدعيان أخران هما ليكون وأنتيوس ، ومبرر أنتيوس في ذلك أنه كان له ابنًا من تلامذة سقراط ، تأثر بفكره وانشغل عن صنعة أبيه الذي كان يعمل بتجارة الجلود ، هذا إضافة إلى أن سقرط تهكم عليه في مرة وبين جهله من خلال مناقشة أمام الناس .

واتُخذ على سقراط أيضا أن كريتياس ، المستبد الدموي والعميل لإسبارطة  الذي تخلص منه الأثينيون فيما بعد ، كان في فترة من فترات حياته بين تلامذة سقراط ، فلم يكن سقراط يفرق بين راغبين العلم على أساس أرائهم السياسية والفلسفية ، فكان منفتحًا على الجميع دون النظر لتوجهاتهم .

بدأ الأثينيون يشعرون بعلو قدر سقراط ، وبدا لهم شخصاً مزعجاً ، ليس للسلطات فحسب ، بل للآباء الذين رأوه أن أبنائهم  يخرجون عن طاعتهم ويلحقون بالمعلم ، لذا طالبوا بإعدام سقراط والتخلص منه ، وبعد انتهاء المدعين الثلاثة من كلامهم .

جاء دور المتهم ، وكان المتبع في تلك المحاكمات حينها أن يتولى المتهم أمر الدفاع عن نفسه ، وإن كان غير قادر على ذلك فان محترفاً يقوم بتلقينه ماذا يقول ، ويجب أن يستغرق نفس الوقت الذي استغرقه الادعاء لا أكثر .

بدأ الدفاع برد سقراط على التهم الموجهة إليه وتفنيدها بأسلوب فلسفي ، ومن ثم رفضها ثم بالانتقال للهجوم على من يدعون العلم وهم جهلة لا يفقهون شيئًا ، وأوضح أنه أعلم الناس لأنه يعرف أنه لا يعرف .

أما هم فيعتقدون أنهم يعرفون شيئًا وهم في الواقع لا يعرفون أي شيء ، وأنهى كلامه بتحذير القضاة من الحكم عليه بالموت لأنهم سيفقدن رجلًا مثله ، ولن يجدوا خيرًا منه ، وسيغرقهم الإله والاثنين في سبات ابدي .

أما إذا أعملوا فكرهم وضمائرهم ولم يحكموا عليه سيعود لنشر فكره وعلمه في كل أنحاء أثينا ، ومن عظمة سقراط في ذلك الموقف أنه لم يستدر عطف القضاة كما يفعل عادة المتهمون الماثلون أمام المحكمة ، فقد قال ما قال وجلس دون أي انفعال .

أما القضاة فبدئوا بإصدار أحكامهم ونزل كن منهم ليضع حكمه في الصندوق أسفل المدرج الذي يجلسون عليه ، ويعد هذا اقتراع أولي لتجريم المتهم أو عدم تجريمه ، وقد جاءت نتيجة الاقتراع بتجريم سقراط بفارق بسيط في الأصوات .

ووفقًا للقانون الأثيني يعين المتهم لنفسه في هذه الحالة العقوبة التي يراها مناسبة ، فبدلًا من أن يفدي سقراط نفسه ويطلب إعفاءه من الحكم ، أعلن أنه يسره أن تتعهده البريتانينة ، وهي مؤسسة أثينية تابعة للدولة تتعهد العظماء ، وتعمل على تأمين معيشتهم بشكل لائق وكريم .

فتعالى الصخب والصياح اعتراضا على كلام سقراط ، ورأت هيئة المحكمة أن في هذا تهكم لها ، وقرر القضاة أن يصوتوا بأنفسهم على نوع العقوبة ومستواها ، فكانت الإعدام بالسم ، مضي شهر على صدور الحكم ، وخلال هذا الشهر جاء كريتون أحد تلاميذ سقراط المخلصين .

وكان شابًا غنيًا عرض عليه أن يقبل الهرب من السجن ريثما يتدبر هو أمر رشوة الحراس ، ولكن رفض سقراط الشجاع مقرًا بوجوب احترام العدالة وقوانينها ، حتى ولو كانت جائزة ، أمضى سقراط انتظاره لتنفيذ العقوبة في هجوء أدهش المتصلين به من حراس ونزلاء .

وكان سبب تأخير التنفيذ هو أن حكم الإعدام لم يكن مسموحاً به في الشرائع الدينية الأثينية آنذاك إلا بعد عودة الكهنة من جزيرة ديلوس ، وفي اليوم التالي لعودة الكهنة جاء موعد التنفيذ وتجمهر تلاميذة سقراط ووصلت زوجته لتراه لأخر مرة وهي تبكي وتمزق ثيابها ، فتأثر سقراط وطلب منها الرحيل .

ثم التفت نحو اصدقائه وبدأ يحدثهم ويتناقش معهم في مواضيع مختلفة في الفن والموت والروح دون أي اكتراث بأمر الإعدام ، وبينما هو كذلك إذا بالجلاد يقاطعه قائلًا : لا تتحرك كثيراً يا سقراط ، وإلا يفقد السم مفعوله وللمرة الاولى ينفعل سقراط وهو يقول : لماذا لا تضع كمية مضاعفة ؟ هذه مهنتك !!

بعدها عاد سقراط يستكمل الحديث مع تلامذته الذين لم يتمكنوا من إخفاء إعجابهم ودهشتهم من ثبات أساتذتهم العزيز الذي استطاع أن ينتصر على غرائزه مخاوفه ، وحينما اقترب موعد تجرع السم ، دخل سقراط غرفة مجاورة ليستحم وهو يقول : لا أريد أن أرهق النساء بتنظيف جثة ميت .

ولما خرج سقراط اقترب منه الجلاد وفي يده كأس السم وقدمه له قائلًا : سقراط أعرف أنك لن تشتمني كما يفعل غيرك ، فأنت عاقل وتستطيع أن تتحمل قدرك ، فما كان منه إلا أن قال : فقط أخبرني بما علي عن أفعل ؟

فقال الجلاد : لا شيء سوى أن تمشي خطوات قليلة بعد التجرع ، وعندما تشعر بثقل في ساقيك استلقي على سريرك ، والسم سيقوم بدوره ، فتناول سقراط الكأس وتجرعه دفعة واحدة بكل هدوء ، وهنا لم يتمالك تلامذته مشاعرهم وانفجروا يجهشون بالبكاء ، الأمر الذي أغضب معلمهم سقراط ، وجعله يستنكر ما يفعلون قائًلا : لقد أمرت زوجتي بالرحيل حتى لا أرى ما مظاهر الضعف هذه .

فأنا أريد ان أموت بصمت وفي خشوع فتمالكوا مشاعركم  ، فتوقف الجميع عن النحيب وصمتوا على الفور ، في حين استلقى سقراط كما اشار جلاده ، وبعدها بدأ سريان السم ليختفي ذلك الفيلسوف العظيم جسدًا لكن تظل أفكاره حية ظاهرة لمئات القرون ، وكان بهذا أول رجل يعدم في التاريخ بسبب معتقداته الفكرية .

حكم وأقوال لسقراط :
-قواعد الأخلاق التي تعتمد على قيم وجدانية نسبية هي مجرد وهم وبشكل عام هي مفهوم دارج لا تؤثر وليست صحيحة .

-كل أرواح البشر خالدة ولكن أرواح الصالحين خالدة وسماوية سامية .

-بالنسبة لي كل ما أعرفه أني لا أعرف .

-بالنسبة للزواج أو للعزوبية دعوا الإنسان يقرر الطريق التي سوف يندم عليها .

-كن كما تريد أن تظهر .

-كن بطيئًا في عمل صداقة ولكن عندما تعقدها كن حازمًا وثابتًا .

-الجمال حكم مستبد قصير الأمد .

-الجمال إغواء وإغراء قصير للإنسان ليكون كريما أكثر .

-احذر فراغ الحياة .

-تزوج فإن وفقت أسعدت وإلا أصبحت فيلسوفًا .

-قد يكون الموت من أعظم نعم البشرية .

-استغل وقتك في قراءة أعمال الآخرين التي جمعوها بعد عناء .

– الكذب ليس شريرًا بذاته لكن يجلب الشر للنفس .

By Lars