الأمطار في سنغافورة شيء عادي جداً ومتوقع ، حتى لو كنا في فصل الصيف ، ففي سنغافورة لا توجد فصول للسنة ، فالسنة كلها فصل واحد ترتفع فيه درجات الحرارة ، وكذلك نسبة الرطوبة ، وهذا شيء متوقع في منطقة استوائية ، فأنت في سنغافورة تقف بالقرب من خط الاستواء ، مع هؤلاء الذين يقفون عليه في أفريقيا وأمريكا اللاتينية ، حيث الأمطار الغزيرة في أي وقت .
الأمطار :
والحقيقة أن هذه الأمطار كانت عائقي الوحيد في الخروج والسير الحر في الشوارع ، خصوصاً أنه كان يتحتم عليّ السير لمسافة طويلة تقترب من الكيلومتر ، من مقر إقامتي على السفينة ، التي ترسو تحت الاصلاح في ترسانة كيبيل لإصلاح السفن ، وحتى أصل إلى محطة الأتوبيس ، الذي سأستقله لأصل وسط المدينة .
ولن أبالغ إذا قلت بأن هذه الأمطار الغزيرة أحيانا كانت تنتظرني في تلك المسافة بالذات ، في طريق ذهابي وكذلك حين عودتي ، وكانت تتوقف تماماً عندما أستقل الأتوبيس ، ومهما كنت أغير مواعيد خروجي ، فكانت هي على موعد غرامي معي بمنتهى التباتة .
شراء الشمسية :
فلم يكن هناك بدٌ من شراء شيء لم نعتده في بلدي ، وإن كان منتشراً في الماضي البعيد ، وكان شيئاً عادياً أن تراه في الأفلام السينمائية القديمة ، فقررت شراء مظلة شمسية ، حتى أقي بها نفسي من زخات المطر ، وأقي بها ملابسي حتى لا تشرب من ماء المطر حتى الثمالة .
كانت الشماسي معروضة في السوق الهندية الممتلئة ، بالبضائع الصينية ، فأخذت واحدة من النوع الطويل ، وكانت تبدو أشبه بعصا لورد انجليزي ، ربما نسيها الانجليز من أيام ما كانوا يحتلون سنغافورة ، ودفعت في المظلة الأنيقة خمسة عشر دولار ، حيث قلت لنفسي : ليس خسارة فيها على أي حال ، والشمسية ستبقى معي من رائحة سنغافورة ، وربما من رائحة التوابل الهندية التي تملأ السوق .
انتظار المطر:
أصبحت أسير في الشوارع ، بروح أسد استوائي يمشي ويتهادى بين غابات السافانا ، عفوًا ناطحات السحاب ، ولم يتبق له إلا أن يرفع رأسه للسماء ويزأر ، منتظراً سقوط الأمطار التي طالما أغرقته ، فمعي شمسية انجليزية تتحدى أي مطر مهما كان غزيراً ، إلا أن المطر اللعين لم يسقط أبداً هذه المرة ، حتى وصلت لمقر إقامتي وأنا جاف تماماً إلا من عرق جسدي ، في ظل رطوبة لا تحتمل .
الشمسية الملعونة :
ظللت أنظر للشمسية وكلي حقد عليها ، بقماشها الجاف جداً ، وليس عليه نقطة ماء واحدة توحد الله ، ثم وضعتها في ركن غرفتي ، ممنياً نفسي في الخروج بها مرة أخرى والأمطار تتساقط بغزارة ، حتى أشعر بأن الخمسة عشر دولار التي دفعتها كانت حلالاً كما يقولون ، ولم أشتري الشمسية لمجرد السير في الشوارع ، وكأنني أحد أعضاء مجلس العموم البريطاني .
يوم آخر :
خرجت في يوم آخر حاملاً شمسيتي وأنا انظر لها مرة ، وللأرض مرتين ، ثم أنظر للسماء مرات ، لكن المطر لم يحنّ عليّ ويسقط إرضاءً لخاطري ، حتى بدأت أفكر في إقامة صلاة استسقاء في أحد الجوامع القريبة ، حتى أستمتع ولو لخمس دقائق بنقر حبات المطر على قماش شمسيتي ، الذي صار أكثر جفافاً من الأعشاب ، ولكن يبدو أن سماء سنغافورة ، ظلت تعاندني أنا بالذات ، حتى عندما رأيتها تمطر وأنا بداخل السوبر ماركت ، أسرعت لأقف في الطابور وأدفع الحساب لأخرج وأمشي تحت المطر في الشارع ، وإذا بي أخرج لأجد المطر قد انتهى تماماً ، حتى المياه التى نزلت على الأرض ابتلعتها البالوعات .
فقدان الأمل :
فقدت الأمل تماماً في استخدام الشمسية تحت المطر ، فتركتها يوم آخر وخرجت بدونها ، وكالعادة استلمني المطر في طريق ذهابي وكذلك في عودتي ، ويبدو أن هناك شيئاً يحول بيني وبين الاستمتاع بالشمسية الجديدة ، فربما كان فيها سحر هندي يحول دون استخدامها ، أو تعويذة صينية ، أو أن هيئة الأرصاد السنغافورية تتعمد إسقاط المطر فوق رأسي فقط !!
أفكار لاستخدام الشمسية :
وعلى الرغم من أن الشيطان قد وسوس لي بأن أجرب استخدامها تحت الدش في الحمام ، لكنى لم أخضع لوسوسات ذلك اللعين ، فربما تنقطع المياه في كل الحمامات ، وما ذنب باقي الزملاء في تلك اللعنة حتى يناموا بعرقهم أو مزنوقين ! ، فتركت الشمسية اللعينة ترقد في مثواها الأخير من ركن غرفتي ، ولأكافح المطر الساقط على رأسي وقفاي ، بأي أوراق من الجرائد .
نهاية الشمسية الملعونة :
نسيت أمر تلك الشمسية الملعونة تماماً ، حتى تركت سنغافورة بأكملها ، وذهبت إلى بلدان أخرى كثيرة ، وكان عليّ أن أستقل الطائرة من مطار بانكوك ، عاصمة تايلاند ، وكانت السماء ملبدة بالغيوم وتمطر بغزارة .
فتذكرت أمر الشمسية التي كانت ترقد في حقيبة سفري الكبيرة ، فأخرجتها وفتحتها لأسير بها لمسافة لاتزيد عن عشرة أمتار ، وأنا في قمة السعادة أمام المطار ، ثم وضعتها على التروللي بجوار حقائبي بالعرض وليس بالطول ، ثم دخلت مسرعاً لصالة السفر ، فقد كنا متأخرين جداً ، فإذا بها تشبك في أحد الحواجز الحديدية في المطار ، ثم تنشق إلى نصفين ، فأخذتها وألقيتها غير آسف عليها في أقرب صندوق قمامة !!.