كان هتلر هو المسؤول الأول عن فكرة ، الحل النهائي للمشكلة اليهودية ، وفي أغلب الأحيان يذكر إلى جانب هتلر اسما هيملروهايدريخ ، ولكن هناك اسم آخر لايقل أهمية هو اسم الكولونيل أدولف ايخمان .
أدولف ايخمان:
استطاع ايخمان الاختفاء عن الأنظار ، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، مدة 15 عاماً ، وكانت لجنة الأمم المتحدة لتعقب مجرمي الحرب قد أعلنت أن ايخمان رجل مطلوب للعدالة ، وفجأة أعلن بن غوريون عشية 23 مايو 1960م ، أنه تم القاء القبض على ايخمان ، وأنه سيحاكم لدوره في المحرقة .
هروب ايخمان:
إن ظروف هرب إيخمان واختفائه ، ثم القاء القبض عليه تصلح موضوعاً لقصه بوليسية ، فبعد سقوط الرايخ الثالث في ألمانيا تسلل إيخمان عبر النمسا إلى ايطاليا ، حيث تزود بأوراق مزورة باسم ريكاردو كليمنت .
بعد ذلك حصل على فيزا لدخول الأرجنتين وذهب ليعيش في بيونس ايرس ، وفي عام 1952م انضم اليه هناك أبناؤه وزوجاته ، وقد تمكن بمساعدة زملائه النازيين هناك ، من الحصول على عمل في شركة مرسيدس – بنز براتب محترم .
القبض عليه :
ظل ايخمان خاضعاً لمراقبة عملاء المخابرات السرية الاسرائيلية فترة من الزمن ، ولما تأكدوا من هويته ، كمنوا له مساء يوم من أيام شهر مايو 1960م ، عند إحدى محطات الباص بينما كان عائداً من عمله إلى منزله وخطفوه ، لقد أجبره فريق مكون من 4 رجال إلى ركوب سيارة انطلقت بهم إلى مكان آمن ، وهناك اعترف ايخمان ، دون مقاومة بحقيقة هويته ، بل ووافق على الذهاب إلى إسرائيل ، لمحاكمته هناك ربما لأنه خشى أن يكون القتل الفوري، هو البديل .
الاختطاف والصحافة والقوانين الدولية :
أثارت حادثة اختطاف ايخمان ضجة عالمية ، وشغلت أخبار محاكمته عناوين الصحف الرئيسية ، كما أثار الاختطاف نقاشاً حادًا وتساؤلات فيها الكثير من الاتهام ، هل يحق لدولة اختراق القانون الدولي ، وتخطف شخصاً من بلده لتحاكمه في بلد آخر؟ ومن يضمن عدالة المحاكمة ؟ وهل يجوز محاكمته أصلاً بعد مرور كل تلك السنوات على انتهاء الحرب وويلاتها ؟
لقد أصبحت المحاكمة نفسها موضوعاً للمحاكمة والاتهام ، تمامًا كما كان موضوع شرعية قيام دولة إسرائيل في ذلك الوقت عرضة للاتهام والمحاكمة ! ولذلك حاولت إسرائيل جهدها كي تبدو المحاكمة شرعية وغير متحيزة ، فسمحت لمحامين من ألمانيا الغربية ، بالدفاع عن إيخمان ، ونقلت وقائع المحاكمة على شاشات التلفزيون ، كما وسمحت لنحو 700 مراسلاً أجنبياً ، ومعهم بعض المحامين والمؤرخين ، بتغطية ما كان يدور في قاعة المحكمة ، أما اهتمام اليهود بمتابعة أنباء المحاكمة فكان فوق الوصف .
جرائم النازية:
حاول هوسنر أن يستغل المحاكمة لتذكير العالم بجرائم النازية ، واضطهادها لليهود ، علاوة على محاولته إدانة ايخمان شخصياً لدوره في قتل اليهود ، ولقد وجد كثيراً من الضحايا اليهود الأوروبيين الذين تقدموا للإدلاء بشهاداتهم حول جرائم النازية ، وتم اختبار القليل منهم .
لقد شاهدت السيدة ريفكا أفراد عائلتها يعدمون واحداً تلو الآخر ، ولما حان دورها أطلقوا على مؤخرة رأسها رصاصة ، ودفعوها إلى القبر الجماعي ، غير أن الرصاصة جرحتها ، ولم تقتلها .
وهكذا بعد ذهاب الجنود ، شقت طريقها بين الجثث وخرجت لتهيم على وجهها مدة ثلاثة أيام ، قبل أن تلتقي في الغابة بأحد المزارعين ، الذي مد إليها يد المساعدة وآواها ، لقد تكلمت ريفكا لمدة ساعة ونصف ، ولم يحاول محامو إيخمان استجوابها أو استجواب غيرها من الشهود .
دور ايخمان في مجازر النازية:
ولكن مادور ايخمان في كل ما حدث ؟.. انضم أدولف ايخمان إلى الحزب النازي عام 1932م وكان في السادسة والعشرين من عمره ، وسرعان ما برز اسمه في صفوف الحزب ، وتخصص في الشؤون اليهودية ، تعلم العبرية وكان يتباهى بمعرفة الثقافة اليهودية وتاريخ اليهود ، خطط مع الغستابو في فيينا لهجرة اليهود الجماعية إلى النمسا .
ترأس ايخمان طوال فترة الحرب ، دائرة شؤون اليهود في جهاز الغستابو ، وبهذا أصبح مسئولا عن تجميع اليهود ، وعزلهم في أحياء مقفلة خاصة بهم ، غيتو ، وبعد ذلك ارسالهم إلى معسكرات الاعتقال والتصفية ، لم يكن باستطاعة ايخمان التنصل من مسؤوليته بالقول : أنه لم يكن يعرف ، ولكنه تمسك بقول : أنه كان ينفذ الأوامر فقط .
بلغ حجم سجل وقائع جلسات محاكمة ايخمان 3564 صفحة مطبوعة على الآلة الكاتبة ، وقد أكد المتهم على أنه كان مجرد ضابط اتصال ، ينقل التعليمات والأوامر ، ويطيع رؤساءه حسبما تعود منذ صغره .
اعترافات ايخمان:
ولكنه اعترف أيضاً أن دفاعه ، ليس له معنى ، وعديم الجدوى ، كما أنه رفض من جهة أخرى أن يعبر صراحة عن ندمه أمام الجميع في قاعة المحكمة : الندم في اعتقادي ، لا يساعد و لا يغير الأمر في شيء ، كما أنه لا يعيد الأموات إلى الحياة ، الندم مسألة تهم الأطفال الصغار .
ايخمان وموقفه من اليهود:
لقد شهد هيرمان غورنغ أثناء محاكمات نورمبيرغ أن ايخمان : كان يتمتع بكامل السلطة للتعامل مع اليهود ، كما أن رودولف هويس كتب بأن ايخمان : كانت تتملكه فكرة التخلص من كل يهودي يقع بين يديه ، فذات مرة قبض على يهودية كانت زوجة لضابط ايطالي ، وقد رفض الافراج عنها برغم كل محاولات التوسط والشفاعة .
وعندما وافق هتلر ، تحت الحاح الهنغاريين على السماح لنحو 9700 عائلة يهودية بالهجرة إلى فلسطين ، أبى ايخمان أن يسمح لهم بالهجرة ، وأخذ ينتظر تراجع الفوهرر عن قراره ، لأن اليهود جميعهم صهاينة متعصبون غير مرغوب بهجرتهم إلى فلسطين ، وقد طلب فعلاً من هتلر أن يغير قراره .
ايخمان والمفاوضات :
وعندما أجرت ألمانيا مفاوضات سرية مع الغرب عبر وسيط يهودي يدعى براند لتزويد الألمان بـ 10آلاف شاحنة ، مقابل السماح لمليون يهودي بالهجرة ، من مناطق النفوذ الألماني ، يومها اجتمع ايخمان ببراند وقال له : مليون يهودي مقابل 10 آلاف شاحنة ، هذا أمر زهيد ، إذاً لابد أن تكون الشاحنات جديدة تماماً ، ومزودة بكل الاضافات و التجهيزات ، وعندما ذهب براند ليفاوض الغرب حول الصفقة وتأخرت عودته ، اتصل ايخمان بالسيدة براند وقال لها : اتصلي بزوجك وأخبريه ، أن ان لم يرجع حالاً ، فسوف أجعل مطاحن أوشفيتز تعمل من جديد .
ايخمان واليهود:
وفي الثاني من نوفمبر عام 1944م ، أمر هيملر بإيقاف برنامج التصفية ، واستدعى ايخمان إلى برلين ليبلغه القرار وجها لوجه ويسمع موافقته على إطاعة الأمر ، ويومها كان رد ايخمان : نعم ، حاضر يا سيدي ، غير أنه صرح بعد ذلك أمام الضباط العاملين معه قائلًا : سوف أقفز في قبري بسعادة إن علمت أنني سأجر معي إلى القبر ملايين اليهود.
الحكم :
لقد استغل المدعى العام هذا القول بدرجة كبيرة ، وركز عليه كثيراً قبل صدور الحكم بإعدام ايخمان في 15 ديسيمبر 1961م ، وفي ليلة 31 مايو 1962م ، تم اعدام أدولف ايخمان شنقاً ، وحرق جثته ، ونثر الرماد فوق البحر بعيداً عن المياه الإقليمية لإسرائيل ،وكانت آخر كلمات إيخمان : كان عليّ أن أطيع قوانين الحرب ، وعلم بلادي .