كثيرًا ما فتكت الأمراض والأوبئة بالشعوب ، وحصدت الملايين من الأرواح ، ومع التطور والتقدم الزمني والعملي ، صار ما كان يحصد الأرواح بالأمس ، مجرد مرضًا بسيطًا خفيفًا لا ينزعج منه أحدًا ، ولكل داء دواء ، وقد يكون فيروس صغير للغاية وغير مرئي أشد فتكًا بالبشر من أسلحة الدمار الأكثر شمولاً .
مرض الأنفلونزا ليس حديثًا ، فقد وصفه منذ القدم أبو قراط الإغريقي ووصف أعراضه ، منذ أكثر من 2500 عامًا ، وقد انتشر لعدة مرات كوباء اجتاح العديد من الدول ، ولكن آخر مرة انتشر بها كانت في روسيا عام 1889م ، وترك خلفه أكثر من مليون ضحية له حول العالم .
وكانت لنظرة المتفائلة تجاه هذا المرض القاتل ، أنه لا يقتل سوى الضعفاء من الأطفال وكبار السن ، ذوي المناعة المنخفضة ، ولكن الشباب الأصحاء يمكنهم تجاوز تلك المحنة ، ولكن تلك النظرة المتفائلة قد تبدلت تمامًا عندما اجتاح العالم بحلول عام 1918م ، إبان الحرب العالمية الأولى ، وعُرف باسم الأنفلونزا الإسبانية ، والتي لم تكن قد أصابتها العدوى ، إلا أنها كانت دولة محايدة إبان فترة الحرب ، فكانت الصحافة بها ذات حرية خاصة وتستعرض أدق التفاصيل ، عكس الدول المتحاربة والتي فرضت حظرًا قويًا بشأن أعداد الضحايا والخسائر الناتجة جرّاء انتشار هذا الوباء.
في تلك الفترة الحرجة لم هناك بؤرة محددة لانتشار المرض ، ولكنه ظهر على هيئة موجات ، وكانت الموجة الأولى منه متوسطة الشدة ، وأصاب الشباب والأطفال وكبار السن ونجى منه الشباب ذوي الصحة ، والمناعة القوية وتم شفاءهم تمامًا من المرض ، ولكن في أغسطس 1918م ضربت الموجة الثانية بالبلاد ، وعصفت بالعديد من الأرواح وحصدتها بطريقة درامية مثيرة ، فقدت أصابت العدوى كافة البشر حتى من أصيبوا من قبل بالموجة الأولى ، إلا أن من أصيبوا به قد تكونت لديه مناعة ضده ، ولكنه قدم في المرة الثانية بطريقة مميتة .
وأصبح الشباب والرجال الأصحاء هم الفئة الأكثر إصابة به ، على عكس الموجة الأولى من الأنفلونزا العادية ، بالإضافة إلى ظهور أعراض غريبة مثل نزيف أنسجة الجسم! وخاصة الأنف والمعدة والأمعاء ، وكانت تحدث أغلب حالات الوفيات نتيجة النزيف الشديد ، وارتشاح الرئة حيث تمتلئ الرئة بالسوائل والدم مما يعسّر عملية التنفس ، فيموت المريض احتناقًا مع ضعف الإمكانات الطبية آنذاك.
كان المرض من الشدة ، بحيث قد تبدو الأعراض في الصباح على الشخص ويموت بحلول المساء ، وأثيرت العديد من الشائعات عن أناس كثر منهم من كان متوجهًا لعمله ، وآخرون لقضاء احتياجاتهم وسقطوا فجأه موتى مصابين بهذا المرض اللعين ، وبالطبع تعطلت الحياة كثيرًا في ذلك الوقت ، حيث أغلقت المدارس وابتعد الناس جميعًا عن الزحام ، حتى أن المحال التجارية قد أغلقت أبوابها وطلبت من الزبائن ، كتابة طلباتهم واحتياجاتهم على ورقة ووضعها أمام باب المتجر بحيث يتم تلبيتها فيما بعد!
وفيما يتعلق بجبهات القتال إبان الحرب العالمية ، مات الكثير من الجنود وكان يتم دفنهم في مقابر جماعية جرّاء هذا الوباء اللعين ، لدرجة أن العديد من المؤرخين اعتقدوا أن هذا الوباء قد لعب دورًا محوريًا غامضًا في قلب موازين الحرب ، فوفقًا لآرائهم كانت الأضرار التي لحقت بالجيوش الألمانية والنمساوية أكبر بكثير مما أصاب العدو ، وبالتالي اختلت صفوف الجنود نتيجة هذا الدمار الذي لحق بأعدادهم وتركهم موتى.
وفي عام 1919م بدأ المرض ينحسر شيئًا فشيئًا ، ويعتقد البعض أن السبب في ذلك هو التقدم الطبي واتخاذ العديد من الإجراءات الاحترازية ، بينما رجح آخرون أن انحسار الوباء كان نتيجة لطبيعة الفيروس نفسه ، ففيروس الأنفلونزا يفقد قوته وصفاته المميتة بالتدريج ، عند انتقاله عبر الأجسام المضيفة البشر .