كان للشعر ، والشعراء مكانة كبيرة في قلوب العرب ، فقد وهبهم الله فصيح الكلام ، واستطاع شعراءهم نظمها في كلام يسر السامعين ، لما لها من وزن وجرس موسيقي يطرب الأذان ، وقد كان من بين هؤلاء الشعراء رجلاً يدعى الأصمعي ، كان مبدعًا في القول ، محكما للأبيات ، ذكيًا واسع الحيلة .
من هو الأصمعي :
هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع الباهلي ، من مواعيد 121 هـ ، وتوفى عام 216 هـ ، كان أحد أئمة الشعر العربي ، حتى سماه الخليفة هارون الرشيد شيطان الشعر ، ولد في مدينة البصرة بأرض العراق ، وكان من أهم شعراء الدولة العباسية ، تعلم العلوم وعلم قراءات القرآن على كبار قراء هذا الزمان .
تمتع الأصمعي بشهرة واسعة ، وذاع صوته في المحافل الأدبية ومن القصص المشهورة عنه التي تبرز تمكنه الشعري ، قصيدة صوت صفير البلبل .
حكاية القصيدة :
وكان في عهد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ، وكان يعشق الشعر ، لكن يمسك على خزائن دولته ، ومن المعروف في ذلك الوقت أن الخليفة يسبغ الأموال على الشعراء إذا استساغ شعرهم ، ووقع منه موقع الإعجاب .
فلجأ أبو جعفر المنصور إلى حيلة بالغة الدهاء ، فقد كان يحفظ القصيدة من أول مرة يسمعها فيها ، ولديه غلام ، وجارية ، أما الغلام فيحفظ القصيدة من المرة الثانية التي تلقي على مسامعه ، وأما الفتاة فمن المرة الثالثة ، فأعلن الخليفة أنه إن سمع قصيدة نظمها جيد للمرة الأولي ، فسيعطي صاحبها وزن ما كتب عليه القصيدة ذهباً .
وحينما كان يتبارى الشعراء للوقف بين يدي الخليفة ، وإسماعه ما طاب من شعرهم ، كان هو يخبرهم بأن قصائدهم ليست من نظمهم ، وأنها قديمة سبق له سماعها ، وبالفعل يعيدها على مسامعهم ، ويأتي بالغلام فيعيدها مرة أخرى ، وتفعل مثله الجارية ، فيرجع الشعراء خاليين اليدين من قصر الخليفة .
وظل الحال على هذا حتى ضاق الحال بالشعراء ، وسمع الأصمعي بالقصة ، فعرف أن في الأمر حيلة ، ونظما قصيدة ، ليست كأي قصيدة بها من المواضيع والقواعد الإعرابية ، ما يجعل حفظها من المرة الأولى أمرًا شديد الصعوبة ، فتنكر الأصمعي في زي أعرابي ، وذهب للخليفة يلقي عليه ما كتب ، فلما سمعها الخليفة لم يستطع ترديدها ، فأحضر الغلام والفتاة ، ولكن كل منهما لم يستطع تذكر القصيدة .
فطلب الخليفة من الأصمعي أن يحضر الأوراق التي كتب عليها القصيدة ، ولكن الأصمعي أخبره أنه كتب القصيدة على عمود من الرخام ، لا يقدر على حمله إلا أربعة جنود ، واضطر الخليفة أن يمنح الأصمعي ما وعد .
وقد كان في مجلس الخليفة رجل استطاع أن يكشف ستر الأصمعي ، فطلب منه الخليفة أن يزيح اللثام عن وجهه ، فلما رآه طلب منه أن يرد المال إلى خزائن الدولة ، فوافق الأصمعي ، واشترط أن يرد الخليفة للشعراء حقهم ، ويعطيهم ما وعد ، وقصيدة الأصمعي تقول :
صـوت صـفير البلبلي . . . هيج قـــلبي الثمــلي
المـــــــاء والزهر معا . . . مــــع زهرِ لحظِ المٌقَلي
و أنت يا ســــيدَ لي . . . وســــــيدي ومولي لي
فكــــــم فكــم تيمني . . . غُـــزَيلٌ عقــــــــــيقَلي
قطَّفتَه من وجـــــــنَةٍ . . . من لثم ورد الخــــجلي
فـــــــقال لا لا لا لا لا . . . وقـــــــــــد غدا مهرولي
والخُـــــوذ مالت طربا . . . من فعل هـــذا الرجلي
فــــــــولولت وولولت . . . ولـــــي ولي يا ويل لي
فقلت لا تولولـــــــي . . . وبيني اللؤلؤ لــــــــــي
قالت له حين كـــــذا . . . انهض وجــــــد بالنقلي
وفتية سقــــــــونني . . . قـــــــــهوة كالعسل لي
شممــــــتها بأنافي . . . أزكـــــــى من القرنفلي
في وسط بستان حلي . . . بالزهر والســـــرور لي
والعـود دندن دنا لي . . . والطبل طبطب طب لـي
طب طبطب طب طبطب . . . طب طبطب طبطب طب لي
والسقف سق سق سق لي . . . والرقص قد طاب لي
شوى شوى وشــاهش . . . على ورق ســـفرجلي
وغرد القمري يصـــــيح . . . ملل فـــــــــــي مللي
ولــــــــــــو تراني راكبا . . . علــــى حمار اهزلي
يمشي علــــــــــــى ثلاثة . . . كمـــــشية العرنجلي
والناس ترجــــــــم جملي . . . في الســوق بالقلقللي
والكـــــــــل كعكع كعِكَع . . . خلفي ومـــن حويللي
لكـــــــــــن مشيت هاربا . . . من خشـــية العقنقلي
إلى لقاء مــــــــــــــــلك . . . مــــــــــعظم مبجلي
يأمر لي بخـــــــــــــلعة . . . حمـــراء كالدم دملي
اجــــــــــــر فيها ماشيا . . . مبغــــــــــددا للذيلي
انا الأديب الألمــعي من . . . حي ارض الموصلي
نظمت قطــــعا زخرفت . . . يعجز عنها الأدبو لي
أقول في مطلعــــــــــها . . . صوت صفي