قصة ونطق القدر من روائع القصص البوليسية ، حدثت بالواقع في إحدى قرى شمالي العراق ،
والغريب في القصة هو انتقام القدر ، وتدور أحداث القصة كالتالي .
قصة ونطق القدر
الرجل صاحب النفوذ :
كان هناك رجلاً صاحب نفوذ في قرية من قرى شمالي العراق ، وكان يعيش برغد في قريته الجميلة الرابضة على سفح جبل عال ،
تكلل هامته الثلوج صيفًا وشتاءً ، وكانت تلك القرية جميلة محاطة بالبساتين التي تمتد بعيدًا إلى أميال وأميال ،
وهي تؤتي أكلها مرتين ، وكانت العيون فيها كثرة باردة الماء ، حلوة المذاق ، كانت تلك القرية جنة من جنات الله في الأرض ، ، الثمر الكثير ، والماء الغزير ، والمناظر الطبيعية الخلابة !
سعاد جميلة القرية :
تزوجت سعاد ابن عمها ، وكانت جميلة رائعة الجمال ، وكان جمالها حديث القرية ، وحديث القرى المجاورة ،
وكانت تخطر في ثوبها الأحمر غادية رائحة ، فتنافس ورود القرية جمالاً ، وتنافس أشجارها قدًا واعتدالاً ،
وكان ذلك الرجل صاحب النفوذ يراها رائحة إلى العين الكبيرة ، تحمل جرة الماء على كتفها ، ويراها غادية إلى دارها تحمل الماء العذب الزلال ،
وكان يراها عاملة في الحقل مع زوجها ، جانية للثمر ، فيزداد حبه لها مع الأيام عمقًا ورسوخًا .
الرجل صاحب النفوذ والمرأة العفيفة :
وراودها ذات يوم عن نفسها فاستعصمت ، وهددها فثبتت ، ولكنها لم تذكر سرها لزوجها ، ولا لأهلها خوف الفضيحة ،
وخشية سطوة غريمها الذي يحسب له أهل قريته ألف حساب ، وبيّت الرجل في نفسه أمرًا وصمم على تنفيذه .
الزوج والزوجة :
كان زوجها يحصد الزرع في أواخر أيام الربيع ، وأوائل أيام الصيف ، وكان عمله قد استغرق عليه يومه كله ،
وكان زرعه قد بقي منه شطر قليل ، فتحامل على نفسه ، وحمّلها فوق ما تطيق ، ودأب يحصد بعد حلول الظلام .
وكانت زوجته في الدار تهيء له الطعام ، وكان قد أرسلها إلى الدار مساءً ليحلق بها بعد قليل ،
وكانت معه النهار كله تعاونه في الحصاد ، وتحمل ما يحصده إلى ساحة مجاورة لمزرعته ، فأشفق عليها بعد تعب طويل ، وأشفقت عليه بعد جهد جهيد .
جريمة قتل :
وكانت تنتظره في الدار متلهفة للقائه ، وكان يسرع في عمله متلهفًا للقائها ، وكان طعامها جاهزًا ، فوقفت بالقرب من باب الدار ترقب طريق عودته ،
وكان الرجل العاشق يترصد زوجها وراء صخرة عاتية ، فلما رآه وحيدًا بعد ساعة من غروب الشمس ،
صوب بندقيته ، وأطلق النار عليه فأرداه قتيلاً .. ثم تسلل إلى القرية مستورًا بظلام الليل البهيم .
العثور على الجثة :
وطال انتظار الزوجة ، فقصدت أهلها وأخبرتهم بأمره ، فلما ذهب إخوتها إلى المزرعة ، وجدوه جثة هامدة ، وقد نزف دمه فغاص في بركة من الدماء .
الحزن والتحقيق في الحادث :
وكما كان يملأ الدار انشراحًا وفرحًا حين كان حيًا ، فقد ملأها حزنًا بعد أن أصبح ميتًا ، واتشحت أرملته بالسواد ،
وأصبحت أيامها أشد سوادًا من ثيابها ، ودأبت على التطلع إلى سير التحقيق عن مقتل زوجها .
إغلاق القضية ضد مجهول :
اهتم رجال الأمن بالحادث ، واهتم المحققون بالحادث أيضًا ، وتضخمت الملفات وكثر السؤال والجواب ،
وأخيرًا أغلقت القضية ، بعد أن توّجت تلك الملفات بالعبارة المألوفة : الجاني مجهول الهوية ،
ولم تعرف هويته على الرغم من التحقيق الدقيق .. وهكذا نجحت العملية ، ومات المريض ، كما يقول بعض الأطباء .
ملابسات القضية وغموضها :
والحق أن هذه القضية بالذات ، كانت قضية صعبة جدًا : القتيل ليس له عدو ، وأهله لا يشتبه بأحد منهم ،
وحادث القتل جرى في جنح الظلام ، والقاتل لم يترك أثرًا لجريمته ، والجثة اكتشفت بعد ساعات من موتها ،
ومكان حادث القتل بعيد عن القرية ، وظن الناس أن القاتل قد نجا من العقاب للأبد ، ولكن الله كان له بالمرصاد ، ويقدر الناس ، ويقدر الله ، ويد الله فوق أيديهم .
بعد عدة شهور :
وبعد شهور من موت زوجها ، تنافس عليها المتنافسون ، يطلبون يدها ، وكان من بين المتنافسون عليها ذلك الرجل صاحب النفوذ في قريتها ،
وبذل الرجل صاحب النفوذ جهدًا من الجهد ، ومالاً من المال ، وسعى سعيًا حثيثًا للحصول عليها بالحسنى تارة ، وبالتهديد تارة أخرى ،
حتى استطاع التغلب على خصومه ، فزُفت إليه حبيبته ، وأصبح محسودًا عليها ، يتربص به حاسدوه .
أعوام ثقيلة وذكريات :
ومضت الأعوام ثقيلة الخطى على قلب الحسناء التي لم تنس ابن عمها ، زوجها الأول ، في يوم من الأيام ،
وكان ثراء زوجها الجديد ، وكان نفوذه ، وكان ما يغدق عليها من حب ورعاية ، كل ذلك لا ينسيها أيام ابن عمها بما فيها ، من آلام وأمال وجهد وعرق .
حب من جهة واحدة :
كانت علاقتها بزوجها الجديد علاقة لباس وثريد ، وكانت علاقتها بزوجها الأول علاقة دم وروح ،
وكل مال الدنيا وكل ثرائها لا يساوي لمحة من علاقة الروح بالروح والدم بالدم ، كان حبًا من جهة واحدة مع الزوج الجديد ،
وكان حب من جهتين مع زوجها الراحل ، فكانت أيامها مع الجديد أعوامًا ، وكانت مع الأول لحظات .. !
إكرام الضيف :
وقصد الزوج الجديد صديق له في قرية مجاورة ، وأصرّ الصديق على إكرام الضيف ، ومضت الساعات لإعداد الطعام ،
حتى إذا مدت الأطعمة وأقبل عليها الحاضرون ، كان قد مضى الشطر الأول من الليل .
العودة إلى القرية في هزيع الليل الأول :
وعاد الزوج إلى قريته في الهزيع الأول من الليل ، وفي طريق عودته بين منعطفات الوديان ، وسفوح الجبال ،
سمع إطلاق نار وسمع أصوات استغاثات وحشرجة محتضر ! ، وسقط في يده ، فسحب مسدسه ليدافع عن نفسه ،
وأطلق بعض عيارات نارية في الهواء ، وركن إلى حفرة وراء صخرة ضخمة ، ينتظر انجلاء الغمة وتوقف إطلاق الرصاص .
جريمة قتل واتهام مباشر :
وأقبل الناس من القرى المجاورة ، ومعهم رجال الأمن والشرطة ، فوجدوا الرجل فوق جثة هامدة وثيابه ملطخة بالدماء ومسدسه بيده ،
وقاده رجال الأمن مُتهمًا بالقتل والسلب ، وكانت كل القرائن تدل على أنه هو القاتل : لا أحد في المنطقة غيره ،
وقد وجد في الحفرة التي وجد فيها المقتول ، وثيابه ملطخة بدماء القتيل ، والإطلاقات النارية التي خرجت من مسدسه ،
هي من نوع الإطلاقات النارية التي استقرت في الجسد الهامد ، حسب تقرير الطبيب العدلي .
دفاع المتهم وعدم تصديق المحكمة له :
ولم يفده دفاعه في أثناء محاكمته أنه عابر سبيل ، وأنه لجأ إلى الحفرة خوفًا من الرصاص المنهمر عليه ،
وأنه أطلق النار دفاعًا عن نفسه وتخويفًا للآخرين ، ومن الصدف أنه أستقر في حفرة القتيل نفسها .
نطق القدر :
والغريب في الأمر أن تلك الحفرة التي لجأ إليها في تلك الحادث ، هي نفس الحفرة ، نفسها التي كَمن فيها لاغتيال الزوج الشهيد .
حكم الإعدام شنقًا :
ونطقت المحكمة الكبرى بالحكم عليه بالإعدام شنقًا حتى الموت ، وصدّقت محكمة التمييز هذا القرار ، واستكملت الدعوى شكليتها الرتيبة بعد ذلك ، وجاء يوم تنفيذ حكم الإعدام به ، وحضر أهله وزوجته لتودعه الوداع الأخير .
اعتراف ومواجهة القدر :
وطلب الرجل أن يختلي بزوجته لحظة من الزمان ، فأسّر إليها بشيء ، وانهمرت من عينيه الدموع ، على حين وقفت زوجته جامدة كالتمثال ، لا تتكلم ولا تنوح ، جاء السجان ليطلب إلى أهله وزوجته مغادرة السجن ، فتركوا الرجل إلى مصيره المحتوم .
دون حداد :
ولم تتكلم الزوجة ، وكان سكوتها أبلغ من أي كلام ، وحين جاءوا بالرجل إلى قريته بعد تنفيذ حكم الإعدام به ، ليوارى في التراب إلى الأبد ، كانت زوجته هي الوحيدة من بين أهله التي لم تتشح بالسواد ، حدادًا عليه !
إن ربك لبالمرصاد :
وعادت الزوجة إلى بيت أهلها ومعها أولادها ، رافضة البقاء في دار أهله ، رغم الإلحاح والإغراء ، وجاء أبوه يومًا إليها طالبًا ، وهو استعادة أولاد ابنه إليه ، فلما ألّح عليها وألحف ، همست في أذنه : أن ابنك هو قاتل زوجي الأول ..
لقد قال لي حين اختلى بي في زنزانته ، على مرأى منك ومن أهله : أرجو عفوك ، فقد قتلت زوجك الأول ، من أجلك لكي تكوني لي وحدي ، ولم أقتل الرجل الذي حكمت من أجله بالموت ، ولكن الله كان لي بالمرصاد ، فانتقم مني لزوجك بعد حين ! .. وسكت الوالد ، وسكتت الزوج ، ونطق القدر : بشر القاتل بالقتل .
إقرأ المزيد من القصص على موقعنا