على مدار الأعوام الطويلة السالفة ، ظلت العديد من القضايا الجنائية ، بلا وضوح أو تفسير ، وكأنها لغزًا أراد أن يهدم قاعدة أنه ليس هناك جريمة كاملة ، وقد تتكشف معالم الجريمة مع الوقت ، وقد لا يمكن كشف ملابساتها على الإطلاق ، وتظل لغزًا محيرًا طوال سنوات عدة ، وقصتنا هذه تختلف في كافة التفاصيل.
البداية ..
إبان فترة الكساد العالمية الكبرى ، في ثلاثينيات القرن المنصرم ، كان الناس في العديد من الدول ، في حالة اقتصادية شديدة البؤس والشقاء ، وقد وقعت قصتنا تحديدًا في عام 1937م ، لذا فرؤية أحد الأشخاص وهو يقطع تذكرة المترو ، من الدرجة الأولى قد تثير الاندهاش وتلفت الأنظار .
وهذا ما حدث مع إحدى السيدات التي كانت ترتدي معطفًا أبيض اللون ، على فستان أخضر قصير ، وتقف لتنتظر عربة المترو من الدرجة الأولى ، التي كانت فارغة تمامًا عندما أتى المترو ، في حين تكتظ العربات الأخرى عن آخرها ، وركبت السيدة التي بلم يكن بعربة المترو سواها فقط ! فلا أحد يستطيع أن يدفع ثمن تذكرة الدرجة الأولى في هذا الوقت .
ما لبث المترو أن تحرك ، ليقف في المحطة التالية عقب مرور خمس وأربعون ثانية فقط ، وما أن صعد رجلين في عربة الدرجة الأولى ، حتى بدأت أصواتهما تتعالى ، ليقف المترو مرة أخرى ، ويشاهدوا السيدة وهي جثة هامدة داخل العربة التي لم يكن بها سواها ، فكيف قُتلت في وقت قصير كهذا!
تحريّات ..
ما إن شاهد رجال الشرطة الجثة ، حتى بدؤا في معاينة المكان وفحصه ، وكأن الأمر محيرًا للغاية ، فتلك السيدة لم يكن سواها داخل المترو ، أي أنها قتلت في 45 ثانية فقط ، كما أن طريقة القتل تنم عن احتراف بالغ ، فقد قُتلت بغرس خنجر صغير في عنقها ، ليقطع وريدًا رئيسًا ، أدى إلى وفاتها في الحال ، دون أن تنبس ببنت شفه ، وكيف لها أن تنتحر بهذه الطريقة وداخل عربة مترو ! كل هذه الأسئلة والمعلومات حيرت رجال الشرطة الذين أُسقط في أيديهم ، وبدؤا في جمع المعلومات عنها.
لاتيسيا توفو الغامضة ..
استطاع رجال الشرطة معرفة هوية السيدة ، فهي تُدعى لاتيسيا توفو ، وهي امرأة إيطالية الأصل ، وتعيش في باريس وحدها بعد أن توفى زوجها ، عقب ست سنوات من الزواج ، ولم يترك لها فلسًا واحدًا من أجل تعيش به ، وبالفعل عملت لاتيسيا في مصنع للغراء كعاملة ، بأحد ضواحي باريس الفقيرة ، ولكن تلك المعلومات كانت محيرة بالنسبة للملابس التي كانت ترتديها إبان مقتلها ، فكيف حدث ذلك ؟
انكشفت الأسرار حول لاتيسيا ببطء شديد ، حيث علم رجال الشرطة بأنها كانت تتردد على أحد صالات الرقص ، حيث ترتدي أفخم الثياب وتضع أرقى العطور ، في المساء وتذهب إلى صالات الرقص للتعارف مع الرجال ، نعم كانت عاملة متواضعة نهارًا ، وعاهرة ليلاً ، ولكن دون أن تحصل على المال!
الحقائق ..
تبين لرجال الشرطة أن لاتيسيا ، كانت تعمل لدى مكتب تحقيقات خاص ، تابع للشرطة الفرنسية ، وكانت مهمة لاتيسيا هي الحصول على المعلومات ، بشأن النشاطات الثورية الفرنسية ، خاصة إحدى المنظمات الإرهابية الفرنسية ، التي كانت تستهدف إسقاط النظام الجمهوري أنذاك ، والعودة إلى الملكية ، وذلك بالتعاون مع النظام النازي الألماني ، والنظام الفاشي في إيطاليا.
وبالفعل ، استطاعت لاتيسيا التسلل إلى داخل المنظمة ، وجلب المعلومات عنها وتوصيلها إلى الشرطة الفرنسية ، ولكن تشكك أعضاء المنظمة بها ، ونصبوا لها كمينًا ، بإعطائها معلومة خاطئة عن أسلحة مهربة لهم ، على الحدود ، وبالفعل ابتعلت لاتيسيا المعلومة وأوصلتها إلى الشرطة الفرنسية ، التي هاجمت السيارات على الحدود ولكنها كانت فارغة ، وهنا تقرر مصير لاتيسيا .
عُثر عليها مقتولة ، دون أن يتم القبض على قاتلها ، وقد أشار البعض أن الشرطة الفرنسية هي من تخلصت منها ، حتى لا تحدث فضائح سياسية كبرى بما تعلمه لاتيسيا من معلومات ، وآخرون يرجحون أن كيفين فيلول القاتل الخاص بالمنظمة هو من قتلها .
ولكنه كان قد هرب إلى أسبانيا قبيل مقتلها ، وآخرون يقولون أن إيطاليا هي من قتلتها حتى لا يفتضح أمرها ، أي من كان قاتلها ، فقد استغلت الحكومة قصة حياتها المزدوجة ونشرتها بالصحف ، ففقدت التعاطف الذي جذبته أخبار مقتلها الأولى ، وسرعان ما نسيها الرأى العام ، ولكن يبقى لغز مقتلها محيرًا ، وتتعدد الجهات التي يمكن أن توجه إيلها ، أصابع الاتهام في مقتل لاتيسيا توفو .