حظت الكاتبة والأدبية ، مي زيادة بالتفرد والتميز ، بين أبناء عصرها لتأخذ مكانها ، بين كبار أدباء هذا العصر ، مثل العقاد وأحمد شوقي والرافعي وغيرهم ، فكانت مي زيادة واحدة بينهم ، تحدّثهم من خلال ثقافتها الغزيرة ، وقلبها النابض بالأدب والمتذوق للشعر ، وتلك هي قصتها .
طفولة مي :
الاسم الحقيقي لها هو ، ماري إلياس زيادة ، وهي من أبناء مدينة الناصرة الفلسطينية ، وكانت ماري قد ولدت في عام 1886م ، كان والد ماري يحمل الجنسية اللبنانية ، بينما والدتها فلسطينية الجنسية والمولد ، وكانت أرثوذكسية الديانة .
درست ماري خلال سنوات عمرها الأولى ، بمدرسة للراهبات في الناصرة ، لتلتحق بعد ذلك ، بمدرسة الزيارة في عينطورة بلبنان ، عقب انتهائها من المرحلة الابتدائية ، حيث أصر والدها أن تدرس في موطنه الأصلي ومسقط رأسه بلبنان ، في تلك الفترة قضت ماري حياتها ، بعيدًا عن مسقط رأسها ، وأحضان والدتها الدافئة ، وذكريات عمرها الأولى ، فنشأت وهي تشعر بالوحدة والعزلة عمن حولها.
نبوغ مبكر :
كانت ماري قد أدهشت معلميها ، بأنها ذات تذوق رائع للشعر ، كما شهدوا نبوغها في الكثير من المجالات ، أبسطها تعلم ودراسة اللغات المختلفة ، حيث أتقنت ماري ، خمس لغات مختلفة ، منها الانجليزية والإسبانية والعربية ، والألمانية والإيطالية .
قيل أن والدة ماري ، كانت تتصف بثقافتها المرتفعة ، وتذوقها الشديد للشعر فكانت تحفظ قصائد ابن الفارض كاملة ، والمئات من قصائد الشعر العربي عمومًا .
لقب مي بدلاً من ماري :
انتقلت ماري زيادة إلى مصر في عام 1907م ، وهي بعمر الثانية والعشرين برفقة والدتها ، وذلك بحثًا عن العمل في بلاط الصحافة ، حيث كانت ماري تتمتع بمهارات متميزة ، كالترجمة من وإلى اللغات التي تتقنها بشدة ، وقدراتها المتميزة على الكتابة ، إلى جانب جمعها بين الكثير من الثقافات ، خاصة الأوروبية والعربية .
بدأ اسم ماري زيادة يلمع ، عقب أن ألقت كلمات لجبران خليل جبران ، على الحضور في حفل أقامته الجمعة الأهلية المصرية ، برعاية الخديوي عباس ، في عام 1913م ، فكانت كلماتها تنطق إحساسًا عاليًا ، أضافت إليها ماري من ثقافتها ورقتها ، فاستمع لها الحضور بشغف شديد .
وكان من بين الحضور عميد الأدب العربي ، الأديب طه حسين ، الذي أنصت لها في اهتمام ، وهو يستمع لكمات جبران عن لسانها ، وعقب انتهاء لم يكن هناك سوى تساؤل واحد ، عن ماري ومن تكون .
كانت ماري تكتب مقالاتها ، في جريدة المحروسة تحت اسم يوميات فتاة ، حيث اختارت طرح الموضوعات الاجتماعية ، التي تحظى بنقاشات واسعة ، وتعرض فيها رأيها ، فاستطاعت أن تحظى بجماهيرية جيدة في فترة قصيرة ، من عملها وربطت القراء بما تكتبه ، وكانت ماري قد اختارت بعد ذلك ، اسمًا مستعارًا لها ، فاختارت الحرفين الأول والأخير من اسمها ، لتبدأ شهرتها بعد ذلك ، باسم مي زيادة .
كان أول إنتاج أدبي لمي زيادة ، هو الديوان الشعري باللغة الفرنسية ، المعروف باسم أزاهير حلم ، وكان يحمل اسم إيزيس كوبيا عام 1911م ، واختارت مي هذا الاسم لأن إيزيس يعود للأسطورة الفرعونية، بينما كوبيا هي كلمة لاتينية تعني زيادة ، وقد قامت مي بهذا التصرف ، انتظارًا لرأي الجمهور في عملها ، دون البحث عن الشهرة منذ المرة الأولى.
كان أحمد لطفي السيد قد التقى بمي ، ونصحها بالقراءة في الأدب العربي ، وتنمية حصيلتها العربية ، وقدم لها القرآن الكريم ، ومجموعة من الأدب العربي ، فكانت تقرأ بنهم وتجمع الخبرات والثقافات ، وفي نفس الوقت تكتب بعدد من المجلات المعروفة في هذا الوقت ؛ مثل السياسة الأسبوعية والمرأة الجديدة والمقتطف .
تأثرت مي زيادة بالفكر الأوربي ، وما عُرف باسم الصالونات الثقافية مثل صالون مدام دوستايل ، وصالون مدام ريكاميه ، فتحضرت لتلك الفكرة كثيرًا ، لتنطلق مي زيادة بصالونها الخاص عام 1913م ، ليشهد القرن العشرين المنصرم ، أرقى صالون أدبي ، وتميز هذا الصالون بأنه جمع كافة مفكري العصر ، على اختلاف توجهاتهم وتنوعهم الفكري ، إلا أن مي زيادة استطاعت بتفرد واضح ، أن تجمع هؤلاء المتصارعون ، تحت سقف واحد .
محبو مي زيادة :
أغلب من التقوا مي زيادة ، هاموا بها عشقًا ، سواء أكان اللقاء بالجريدة أم بالصالون ، ولكن جميعهم عشقوها من طرف واحد ، حيث جذبهم جمال الشكل والروح ، والثقافة المرتفعة ، كان أحمد لطفي السيد ، بمثابة المعلم والأب الروحي لمي زيادة ، فلم يكن من المفهوم ، أن تكون علاقتهما سوى علاقة أستاذ بتلميذته النجيبة .
إلا أن رواد الصالون لم يكونوا بمثل هذا الفكر مثل الرافعي ، فعبّر لها مصطفى صادق الرافعي عن حبه الشديد ، بعدد من كتاباته الملتهبة ، حيث كان يفهم مراسلاتها له ، بأسلوب مغاير ومختلف عن معاني ما جاء فيها من كلمات .
أما عن العقاد ، فكانت علاقته بمي زيادة في غاية الاضطراب ، فتارة تكون هادئة وأخرى تكون عدائية ، ولكن الحقيقة هي أن العقاد أحب مي زيادة كثيرًا ، وذكرها في روايته سارة باسم مستعار تدعى هند ، وكان العقاد قد عرفها عن طريق مقالاتها المنشورة ، والتي أحبها من خلالها بشدة ، ولكنه لم يفصح عن حبه لها .
أما عن أحمد شوقي وحافظ إبراهيم ، فكانا من أشهر رواد صالونها الخاص ، ولكن كانت مي بالنسبة لهما ، شاعرة وأديبة يحبون الاستماع لها ، وسماعها أثناء العزف على البيانو ، وقراءتها المتميزة للشعر .
أما طه حسين ، فكانت مي زيادة له ، شاعرة وأديبة تستحق أن يجلس مستمعًا لها ، وكانت مي قد استطاعت بالفعل، أن تجمع كل هؤلاء في غرفة واحدة ، وتتناقش معهم في مختلف الموضوعات .
جبران الحب الوحيد في حياة مي زيادة :
كان اللقاء الأول ، الذي جمع مي زيادة بجبران خليل جبران ، هو لقاء الورق الذي بدأ برسالة قصيرة ، من طرف مي زيادة للأديب الكبير ، جبران خليل جبران ، حيث أرسلت له رسالة عبرت من خلالها عن إعجابها بروايته مرتا البانية ، وعرفته بنفسها ف يها ، وفرح جبران برسالتها جدًا ، وطلب منها ألا تتوقف عن مراسلته ، وإبداء رأيها في أعماله ، ثم أرسل لها روايته الأجنحة المتكسرة .
حاز جبران على حب مي زيادة ، الذي وهبته له على الورق ، وعبّر لها بشوق ولهفة عن حبه ، إلا أنهما لم يتخذا أي خطوة لتكليل هذا الحب ، بالزواج في نهاية الطريق ، وعندما مات جبران ، رحل معه الحب الوحيد في حياة مي زيادة ، وتم إسدال الستار على قصة العشق بينهما ، التي دامت لتسعة عشر عامًا ، تحملها الأوراق فقط .
وتوفيت مي زيادة في أكتوبر عام 1941م ، بعد رحلة طويلة وعميقة من العطاء الأدبي الراقي .