لأمهات الأئمة المسلمين ، والكثير من الفقهاء ، دور عظيم للغاية في التنشئة ، والتربية وحسن التفكر ، ولهن جميعًا بصمات واضحة في التأثير بحياة العديد ، من فقهاء وأئمة المسلمين ، ومنهم الإمام البخاري رحمه الله .
نستمع إلى اسم الإمام البخاري ، كل يوم في أماكن مختلفة ، إما بالبرامج والحوارات الدينية ، أو حتى نطالع اسمه بالصحف والكتب ، ولطالما اقترن اسمه بكافة الأحاديث النبوية ، التي صُنفت بأنها صحيحة ، حيث يُكتب بعد انتهاء الحديث رواه البخاري .
ولد الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، الذي استطاع جمع الأحاديث النبوية الشريفة الصحيحة ، في عام 194 هـ ، في مدينة البخارية بقارة آسيا ، لرجل صالح يدعى إسماعيل ، كان قد حج إلى بيت الله الحرام ، وهناك التقى بالإمام أنس بن مالك ، وروى عنه بعض الأحاديث ، وكان الحاج إسماعيل قد فرح بمولد ابنه فرحًا شديدًا ، فأسماه محمدًا تيمنًا بالنبي الكريم ، صلّ الله عليه وسلم .
لم يمر الكثير من الوقت ، حتى لقي الحاج إسماعيل ربه ، وكان هذا قبل أن يشب محمد ، ولم يقل قبل وفاته ، سوى أنه لم يملك درهمًا واحدًا لا يعرف مصدره ، فلقي ربه مطمئنًا ، بأنه لم يدع ابنيه أحمد ومحمد ، ينبتا من مال حرام ، واثقًا أن الله جزاء له ، لن يضيعهما .
لم يكن لدى الطفلين سوى أمهما ، التي احتضنتهما عقب وفاة والدهما ، الحاج إسماعيل الذي أنبتهما من حلال ، فأحسنت هي استكمال المسيرة ورعاية الطفلين ، إلى أن استيقظ محمد من نومه في أحد الأيام ، وكان قد فقد بصره تمامًا ، وفقد القدرة على رؤية أي شيء ، وليس أصعب على الأم ، من أن ترى ابنها الصغير وقد فقد بصره ، والتي قد ينخلع قلبها ، بسبب مرض عارض ، قد ألمّ بطفل لها ، فما البال بفقدان الطفل لبصره ، فتكدر ليلها ونهارها وطال همها بما طال الصغير .
كانت الأم المسكينة تفكر ، في هذا الصغير الذي بات معتمدًا عليها في كافة أموره ، الصغيرة قبل الكبيرة ، وكم خشيت عليه أن يصرفه هذا المرض المفاجئ ، عن التعلم ويحول بينه وبين حريته كطفل ، يرغب في رؤية العالم من حوله واستكشافه .
لم تجد الأم ملاذًا ، سوى طرق باب الكريم الذي لا يغفل عن عباده ، ووجدت في التضرع إلى الله ، ملجأ وملاذًا وفرجًا لمحنتها ، فهذا الصغير بات يعتمد عليها في كافة شؤونه ، فهو يتعثر بمجرد أن يقف ، ولا يدري ما يفعل .
أخذت الأم المؤمنة تلح على الله بالدعاء ، وتطيل السجود وتتضرع ، وكانت على يقين بالاستجابة ، فهي من المنكسرة قلوبهم ، فكانت إذا ما أسدل الليل ستاره ، انطلقت هي تركض نحو مولاها ، ترجوه أن يخلصها ويخلص طفلها الضعيف ، من مرضه الذي ألمّ به .
طال الوقت ولم تمل الأم من الدعاء ، بل تمسكت به كلما تأخرت الإجابة ، وشعرت هي باقتراب الفرج ، فاستطابت الوقوف بين يدي الله ، حتى أتى يوم ، قامت أم البخاري ، لتقف بين يدي الله ، وفي تلك الليلة دعت وألحت بالدعاء وبكت ، ثم أدركتها سِنة من النوم ، وإذا بها ترى خليل الله سيدنا إبراهيم ، عليه السلام يخبرها أن الله قد رد لطفلها بصره ، بكثرة دعائها .
استيقظت أم محمد ، وقلبها يخفق بلهفة من بشارتها ، ووضوح رأياها وصدقها ، وجلست تنتظر صلاة الفجر بفروغ صبر ، لتشاهد معجزة المولى عز وجل عليها ، وعلى ابنها وما أن أذن المؤذن ، حتى أيقظت السيدة طفليها للصلاة ، وكانت المفاجأة أن الله قد رد لمحمد بصره بالفعل ، وذهب الصغير يتوضأ وحده ، فسجدت السيدة وهي تبكي بكاء شديدًا ، بلل سجادتها وهي تحمد الله على كرمه وفضله عليها ، ورحمته بصغيرها وأنه لم يردها خائبة .
وأرادت السيدة الفاضلة ، أن تشكر الله في بيته ، فحملت طفليها وذهبت صوب مكة ، فأتموا الحج عام 210 هـ ، فعادت الأم وطفلها أحمد ، بينما ظل محمد في مكة ينهل من العلم فيها .
في هذا الوقت ، ظل الإمام محمد يسافر من مكان لآخر ، يطلب العلم ويجالس العلماء ، وقد أظهر نبوغًا وذكاء شديدًا ، خاصة في علم الحديث الشريف ، ومن أشهر ما ألف الإمام محمد البخاري ، كتابه الجامع الصحيح ، الذي يجمع الأحاديث الصحيحة ، عن النبي صلّ الله عليه وسلم .
وما فعله الإمام جعل الأم تفرح بابنها ، فرحًا شديدًا فقد كانت تراه يزداد علمًا ، فشكرت المولى عز وجل كثيرًا. وقد توفى الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ، في عام 256 هـ ، رحمه الله ورحم أمه التي قامت بتربيته على أفضل وجه .