وراء كل عظيم امرأة عظيمة هي التي تدفعه إلى الأمام وتعينه على اجتياز المصاعب والعقبات ، ولعل في قصة السيدة زبيدة زوجة هارون الرشيد أروع مثل لذلك فهي السيدة الثانية في الدولة بعد أمه السيدة الخيزران .
من هي السيدة زبيدة :
ولدت السيدة زبيدة عام 149 هجرية بالموصل بالعراق ، وهي زوجة الخليفة العباسي هارون الرشيد وحفيدة مؤسس الدولة العباسية أبو جعفر المنصور ، وسميت زبيدة نظرًا لشدة بياضها حيث أطلق عليها هذا الاسم جدها المنصور .
كانت السيدة زبيدة سيدة عظيمة ولها أعمال جليلة ، كبناء أحواض لسقاية الحجاج في الطريق من بغداد إلى مكة ، والدليل على ذلك وجود عين باسمها بمكة المكرمة ، كما أنها كانت سيدة سخية ولها فضل كبير في الحضارة والعمران والاهتمام بالأدباء والشعراء والأطباء .
زواجها من هارون الرشيد :
تزوج هارون الرشيد من زبيدة عام 165 هجرية في خلافة المهدي ، وهي ابنه عمه وخالته في نفس الوقت ، وكانت السيدة زبيدة امرأة بارعة الجمال رزينة العقل فصيحة اللسان تنظم الشعر وتنشده بإتقان ، وكانت أخلاقها سامية عالية فهام بها الرشيد حبًا وصار لها نفوذٌ كبيرٌ حيث كان هارون الرشيد يستشيرها في كثير من أمور الدولة .
وكان العصر العباسي حينها في مرحلة ازدهار امتدت ربوعه إلى القسطنطينية ، ومن شده حبها للأدب والعلوم وفرت في بغداد كل وسائل الراحة للشعراء والعلماء ، ووفرت لهم وسائل البحث والإنتاج وكان ممن اشتهر منهم أبو العتاهية والجاحظ وأبو نواس ، ومن علماء اللغة سيبويه ومن علماء الدين أبو حنيفة والإمام مالك ، وبذلت في ذلك الكثير من الأموال ، فلقد حولت بغداد إلى قبلة للعلماء والدارسين .
وكانت زبيدة تذهب في رحلات الحج مع زوجها الرشيد ، فشهدت معاناة الحجاج في الحصول على المياه ، لذا أمرت المهندسين بعمل دراسة لتوفير المياه ، فأخبرها المهندسون بأن الأمر في غاية الصعوبة فقالت : والله لو كلفت كل ضربة فأس دينارًا لفعلت .
وبالفعل بدأ المشروع ووصل المهندسين إلى منابع المياه في الجبال ، وأوصلوها بعين حنين بمكة وتم إسالة المياه مسافة عشرة أميال حتى تصل للحجاج المسلمين ، وبنت زبيدة الكثير من المساجد وأقامت الآبار والبرك على الطريق من بغداد إلى مكة ، فكانت دائمًا معروفة بالخير والجود على جموع المسلمين .
اختلافها مع زوجها هارون الرشيد :
كان هارون الرشيد يرغب في أن يتولى الخلافة من بعده ابنه الخليفة المأمون ، ولكن زبيدة كانت تريد الخلافة لابنها محمد الأمين ، فقد كانت أم المأمون جارية من جواري القصر تسمى مراجل وهي من أصل فارسي ، وكان هارون الرشيد يميل لتعين المأمون من بعده لعلمه ورجاحة عقلة والتزامه بأدب الملوك والخلفاء على عكس الأمين الذي كان يغلب عليه الطيش .
وقد استغل البرامكة الفرس ذلك وأيدوا تولي المأمون ابن مراجل الفارسية لأنهم من نفس الأصل العجمي ، فأخبرت زبيدة زوجها بأن البرامكة يتآمرون عليه ليستولوا على الحكم والاستقلال بفارس ، فحدثت نكبة البرامكة وقتلهم هارون ولم ينج منهم أحد ، وهذا يوضح مدى النفوذ الذي كانت تحظي به زبيدة عند زوجها .
وقد ذكر التاريخ أن مشاداة وقعت بينهما حينما قالت زبيدة لهارون الرشيد : إن ابني الأمين خير من ابنك المأمون فرد عليها هارون قائلاً : إن ابنك يزينه في عينيك ما يزين الولد في عين الأبوين ، فاتقيِ الله ، فو الله إن ابنك لأحب إليّ ، ولكنها الخلافة لا تصلح إلا لمن كان لها أهلاً، وبها مستحقًا ، ونحن مسئولون عن هذا الخلق ومأخوذون بهذا الأنام ، فما أغنانا أن نلقى الله بوزرهم ، وننقلب إلى الله بإثمهم .
ولكن ما حدث بعد ذلك أثبت سلطة زبيدة حيث تم تعيين المأمون ولي عهد للأمين وأثبت التاريخ فشل الأمين في الحكم حيث انقلب عليه الجميع بعد إساءته لعدد كبير من القادة والطوائف ، وكانت نهايته مأساوية حيث قتل على أيدي أنصار المأمون .
ولكن زبيدة وأدت الفتنة وأرسلت إلى المأمون كتابًا تقول فيه أهنئك بالخلافة ولئن كنت قد فقدت ابنًا خليفة فقد عوضت بابنًا خليفة لم ألده ، وكان المأمون يسعى دائمًا إلى رضاها ومودتها .
وفاتها :
عاشت هذه السيدة العظيمة 32 عامًا بعد وفاة زوجها هارون الرشيد ، وتوفيت ببغداد عام 216 هجرية وظلت سيرتها تعطر أفواه الذاكرين عبر السنين لما فعلته للعلماء والحجاج من خير وفير ما زالت أبار مكة تشهد عليه إلى الأن .