توقف المدرس الفرنسي عن الشرح ، كان غاضبا محمر الوجه وصاح وهو يشير بأصبعه : أنت .. أيها الطالب في الصف الأخر .. قف ، واستدارت عيون بقية الطلبة في الفصل ، ليشاهدوا ذلك الطالب الذي أثار غضب المدرس !!
كتاب القرآن الكريم :
ونهض ، عبد الحميد واقفًا ، كان نحيفًا ، أسمر الوجه ، واسع العينين ، وصاح المدرس مرة أخرى : ماذا تخفي داخل ثيابك ؟ لم يقل عبدالحميد شيئًا ، أدرك بقية الطلاب أنه مذنب وعجز عن الدفاع عن نفسه ، وقال المدرس : تقدم إلى هنا ، سار عبدالحميد إلى حيث يقف المدرس ، رمقه الباقون في اشفاق ، كانوا يعرفون أن هذا المدرس لا يرحم أي تلميذ يقع تحت يده ، وقف عبد الحميد أمامه ، وأخذ المدرس يفتش ثيابه بسرعة وعصبية .
ثم هتف في انتصار ، وهو يخرج من بين طيات ثيابه كتاب : آه .. أنت تخفي كتاب !! ، وأخذ يقلب في صفحات الكتاب في سرعة ثم تغير وجهه ، وأصبح أكثر غضبًا وأخذ يردد : انه القرآن .. القرآن .. كنت أتوقع هذا ، أتوقعه .
إنني مسلم :
ونظر إلى بقية التلاميذ الذين يراقبون ما يحدث بعيون خائفة ، لوح المدرس بالكتاب عاليًا ، وقال في صوت هادر : أترون مدى الجريمة التي ارتكبها زميلكم ، مثل هذه الكتب ممنوعة في المدرسة ، إنها جريمة ، وفوجيء الجميع بعبد الحميد وهو يرد في هدوء : إننى مسلم ، ومن الطبيعي أن أحمل القرآن في صدري وفي ثيابي ، وزاد هذا من ثورة المدرس وهتف : سوف أرسلك إلى ناظر المدرسة ، يجب أن يتم فصلك في الحال ، هيا أمامي .. سار عبد الحميد معه .
مخالفة الأوامر :
كانت المدرسة كبيرة ، أكبر المدارس في مدينة قسنطيتة الجزائرية ، تضم خليطًا من الطلبة الجزائريين وأبناء الجنود الفرنسيين ، ولكن أساتذتها جميعًا ، كانوا من الفرنسيين ، ولم يكن يدرس فيها شيء إلا باللغة الفرنسية .
وفي حجرة المدير ، أعاد المدرس شرح الواقعه فصرخ المدير في رعب : قرآن !! كيف تخالف أوامري ، ان كل الكتب العربية محرم دخولها إلى المدرسة ، وهذا الكتاب هو أخطرها جميعًا ، سوف تقف في فناء المدرسة ووجهك إلى الحائط طوال اليوم ، وفي الغد يجب أن تحضر ولي أمرك .
العقوبة القاسية :
وفي فناء المدرسة تلقي عبد الحميد هذه العقوبة القاسية ، كانوا يريدونه أن يبكي أو يعتذر أو يتراجع ، ولكنه لم يفعل ، رفع يديه ووجهه إلى الحائط ، وظل صامتًا ، أخفى احساسه الشديد بالظلم في داخله ، لقد كان يحمل القرآن دائمًا كما أوصاه أبوه ، لم يتركه يومًا واحدًا ، وهذا اليوم كان يعدل من وضع ملابسه عندما لاحظه المدرس ، كان عبد الحميد حزينًا لأن القرآن لم يعد معه ، لأنه راقدًا في هذه اللحظة على مكتب الناظر ، وكان حزينًا لذلك أكثر من حزنه على العقوبة .
تهامس الطلبة الجزائريون في اشفاق وهم يشاهدونه ، وضحك الطلبة الفرنسيون في شماتة ، وكان المشرف حازمًا فلا يسمح لأحد من الاقتراب منه ، أو التخفيف عنه بأي كلمة ، وعندما انتهى اليوم المدرسي أخيرًا ، أحس عبدالحميد بأن جسده تصلب ، وذراعيه متخدرتان ، وسار في بطء إلى البيت .
غريب في بلد غريبة :
كان جزائري يسير فوق أرض جزائرية ، ولكنه أحس أنه غريب في بلد غريبة ، وصل إلى البيت ، كان أبوه الشيخ باديس ، بوجهه الطيب ولحيته البيضاء المسترسلة ، جالسًا فأخذ يقص عليه ما حدث له اليوم ، وعندما وصل إلى لحظات العقاب الأخيرة انفجر في البكاء ، وهو يقول في صوت متقطع : اننى لا أحب هذه المدرسة يا أبي ، ولا أريد أن أذهب إلى أولئك الفرنسيين .
قال الأب : هذا مؤسف يا بني ، انهم في كل مكان ، ينتشرون على وجه الجزائر كالطاعون ، سوف أذهب معك غدًا إلى المدرسة لمقابلة هذا الناظر ، وقضي عبد الحمد ليلته طويلة متسائلاً : لماذا يتحدثون في المدرسة ، بلغة غريبة عن اللغة التي يتحدث بها الناس في الشارع أو التي يتحدث بها أهله ، لماذا يرفضون أن يقول على نفسه جزائري ، ويصرون على أنه مواطن فرنسي برغم أنه لا يعرف فرنسا ولم يرها أبدًا في حياته ، ولم يرى منها غير هؤلاء المسلحين الذين يجوبون الشوارع ، وهؤلاء المدرسين الذين يحاصرونه بالأوامر .
الشيخ باديس :
في صباح اليوم التالي ، سار عبدالحميد مع أبيه للمدرسة ، لم يقف في الطابور ، ولم يردد نشيد المارسليز ، ولم يؤدي التحية لعلم فرنسا ، توجها إلى مكتب الناظر الذي كان ما يزال غاضبًا ، وفور أن شاهد الأب أشار له على كتاب القرآن الذي كان مايزال موجودًا على مكتبه ، وهو يهتف : هذا هو جسم الجريمة التي وجدناه في ثياب ابنك .
قال الأب : هذا ليس جسم جريمة ، إنه كتاب الله القرآن الكريم ، وابني كمسلم لابد أن يحمله ويعتز به وأنا من أمرته بذلك . ذهل الناظر من الرد ، كان يتوقع أن يتراجع الأب أو أن يؤنب ابنه ، وأن يعد الناظر وعدًا حازمًا بأن هذا الأمر لن يتكرر مرة أخرى ، وبدأ الناظر ينظر إلى الأب وإلى هيئته وثيابه ، ثم هتف وهو يهز رأسه : آه فهمت ، أنت رجل دين ، أليس كذلك ؟ قال الأب : أجل ، أنا شيخ جامع القسنطيتة .
صاح لناظر وهو يخرج من خلف مكتبه ، فهمت ، أنت الشيخ باديس ، الذي يحرض الناس علينا ، ويؤليهم ضدنا ، أجل أنت تقول أن فرنسا تحتل الأرض ، وتصر على أن اسمها الجزائر برغم من ان هذه الأرض فرنسية وراء البحار ..أليس كذلك ؟!
مدينة عربية وليست فرنسية :
قال الأب : يمكن أن تقولوا على الشمس أيضا ، أنها أرض فرنسية في منتصف السماء ، ولكن هذا لن يغير من حقيقتها ، الشمس هي الشمس ، والجزائر هي الجزائر ، صاح الناظر : سوف نأسف من أجل ذلك ، لأن ابنك مفصول ، ولن يدخل أي مدرسة فرنسية بعد الآن ، مفهوم لن يدخل إي مدرسة.
قال الأب : لم آت لكي أعيده إلى المدرسة يا حضرة الناظر ، لقد جئت لأقول له أمامك إنه على حق ، وأنا كفيل أن أعد له مستقبله ، والآن أرجو أن تردي لابني كتابه ، تناول عبد الحميد الكتاب باعتزاز ، وضعه بين طيات ثيابه مرة أخرى ، أحس بالدفء والاطمئنان ، وأمسك يد أبيه ، وغادرا المدرسة معًا ، مرفوعي الرأس ، كانت المدينة تمتد أمامهما ، البيوت والمساجد والرجال في ملابسهم البيضاء ، والنساء المحجبات ، مدينة عربية وليست فرنسية ، مدينتهم ، وأرضهم .
تخطيط للمستقبل :
قال عبد الحميد : والآن .. ماذا سنفعل يا أبي ؟ قال الأب وكأنه يحلم بالمستقبل ، يجب عليك أن تتعلم العربية ، وأن تحفظ القرآن جيدًا ، من أجل ذلك سوف تسافر أولًا إلى مسجد الزيتونة في تونس ، حتى تتعلم العربية بطريقة صحيحة ، ثم تذهب بعد ذلك إلى الأزهر الشريف في مصر ، حتى تتعلم وتتثقف الثقافة العربية والدينية الأصيلة ، هذه هي الخطوة الأولى لمقاومة الاستعمار الفرنسي يا ولدي ، يجب ألا نجعله يصل إلى عقولنا .
رحلة عبد الحميد بن باديس :
بدأت رحلة التعلم إلى تونس ، ثم إلى مصر ، وعاد إلى الجزائر مثقفًا عربيًا متدينًا ، يدعو إلى النهضة القومية عن طريق فهم اللغة العربية ، وفهم الدين الإسلامي فهمًا عصريًا ، كان يدرك أن مقاومة الاحتلال الفرنسي للجزائر ، يجب أن تبدأ مع البذرة الأولى ، مع الصبية الصغار ، الذين يتعلمون حروف الهجاء ، فالاستعمار لم يكن للأرض فقط ، ولكنه كان يريد أن يصل إلى كل العقول .
أبطال حرب التحرير :
وأنشأ عبد الحميد بن باديس ، سلسلة من المدارس ، كلها تعلم اللغة العربية ، وكلها تحفظ القرآن الكريم ، وتدرس تعاليم الإسلام ، ومن هؤلاء التلاميذ الصغار خرج أبطال حرب التحرير ، الذين حاربوا جيش الاحتلال وحرروا الجزائر وأعادوا لها وجهها العربي .