دخل الغلام إلى سوق الوراقين ، في بغداد وأخذ يتطلع بانبهار إلى كل شيء ، لم يكن السوق مزدحمًا بالناس ، كان مزدحمًا بالكتب ، كتب عربيه وفارسية ولاتينية ، مكسوة بالجلد الفاخر ، ومزينة بماء الذهب ، ومعطرة بالزعفران ، وقال الغلام في نفسه : يااه ما أجمل هذا المكان !!
طلب العمل ونسخ الكتب :
في أحد الحوانيت كان هناك شيخ يجلس إلى منضدة صغيرة ، وفي يده قلم من البوص ، كان ينسخ الكلمات من كتاب أمامه ، بخط جميل ومرتب ، وعند الانتهاء من الصفحة كان يرش عليها قليلاً من الرمل الناعم ، ويهزها حتى تجف وتتشرب ذرات الرمل الحبر الناعم ، ثم يواصل العمل في صفحة أخرى بالعناية نفسها ، ظل الغلام يراقبه قليلا ، ثم تقدم منه وهو يقول في خجل بالغ : هل أستطيع أن أعمل معك في نسخ الكتب يا سيدي ..؟
تعلم المهنة :
وتأمل الشيخ الغلام ، كان في الثانية عشر من عمره ، أبيض الوجه ، أشقر الشعر ، لعله غير عربي ، سأله الشيخ : هل تجيد الكتابة بالعربية ؟ قفز الغلام بسرعة إلى داخل الحانوت ، تناول ورقة وقلمًا من البوص ، وأخذ يكتب بعضَا من الآيات القرآنية ، وأخذ الشيخ يراقبه على وجهه ابتسامة ، كان خطه جميلاً بالفعل ، وقال له الشيخ : أول شرط لتعلم هذه المهنة هي أن تحب الكتب ، وتعشق الكتابة ، إذا فعلت ذلك فسوف تكون كاتبًا ناجحًا .
ياقوت الحموي :
كان اسم الغلام ياقوت ، وكان قادمًا من حماة ، أي أنه كان بلا مأوى في بغداد ، وكان على الشيخ أن يعلمه وأن يؤويه وأن يخلق منه كاتبًا جيدًا ، وتعود ياقوت أن يجلس كل يوم على منضدة صغيرة في مقابل الشيخ ، ولأن الشيخ كان يريد منه أن يحب مهنة الكتابة ، فقد ترك له حرية اختيار الكتاب الذي ينسخه ، اختار ياقوت كتاب اسمه ، المسالك والممالك ، وكان أحيانا يترك الكتابة ويسرح بعينه وسط السطور ، وكان الشيخ يبتسم لأن هذه عادة المبتدئين الذين تسخرهم كلمات الكتب .
العبد الهارب :
ثم ارتفع في السوق الهادئ صوت غريب ، كان هناك المنادي يدق على الطبلة ، ويصيح عاليًا : يا أهالي بغداد ، عبد هارب ، غلام في الثانية عشرة من عمره ، أصله رومي ، استمع الشيخ قليلا ثم قال لياقوت دون أن يرفع رأسه : يااه ، إنه في مثل عمرك تمامًا يا ياقوت .. لم يجب ياقوت ، ولم يرى الشيخ الصفرة التي كست وجه ياقوت ، ولم يشاهد يده المرتجفة وهي تمسك بالقلم ، وواصل المنادي قوله : سيده هو عسكر بن نصر الحموي ، من يجده له مكافأة كبيرة ، ومن يتستر عليه له حق العقاب .
ومرة أخرى قال الشيخ : يااه ، هو من حماة أيضَا ، وعندما لم يسمع إجابة ياقوت رفع رأسه فلم يجده أمامه ، كان قد تراجع إلى آخر الحانوت ، كأنه يريد أن يختبئ وسط الكتب ، وجهه بالغ الشحوب ، وهتف به الشيخ : ماذا بك يا ياقوت ؟ قال وهو يحاول أن يخفي اضطرابه : لاشيء يا سيدي .. انني مريض بعض الشيء .
غلام لم يكن ناسخًا عاديًا :
وعندما انصرفا في المساء ، كان ياقوت مازال يرتجف ، وصلا إلى المنزل ، وأعد له الشيخ حساء ساخنًا وأوصاه أن ينام حتى الصباح ، ولكن الشيخ استيقظ قلقًا في منتصف الليل ، كان مازال خائفًا على ياقوت ، سار إلى غرفته ودهش عندما وجد ضوءًا خافتًا ينبعث من تحت بابها ، ما هذا ، أمازال ياقوت ساهرًا ، اقترب الشيخ من كوة صغيرة في الجدار ونظر إلى داخل الغرفة .
كان ياقوت جالسًا ، أمام مصباح صغيرة وهو يكتب ، وكان مستغرقًا في الكتابة ، إلى حد أنه لا يرفع رأسه ، وتعجب الشيخ أكثر حين وجد أنه لا ينسخ شيئًا ، إنه يستحضر الكلمات من ذاكرته ، أمامه صفحات كثيرة من الواضح أنه كتبها في ليالي كثيرة ، عبر ساعات السفر الطويلة ، اكتشف الشيخ في هذه اللحظة أن غلامه لم يكن ناسخًا عاديًا ، إنه كاتب ، مؤلف في أعماقه أشياء كثيرة وفي عقله معارف أكثر يريد أن يضعها على الورق .
المؤلف والكاتب الصغير :
فتح الشيخ الباب ودخل إلى الغرفة ، وقال في هدوء : ياقوت ولدي الصغير ، لماذا تواصل الكتابة حتى هذا الوقت المتأخر من الليل ؟ فوجيء ياقوت بدخول الشيخ ، لم تكن هناك فرصة لإخفاء ما يفعله ، جلس الشيخ وتناول الأوراق الكثيرة وأخذ يقرأ ما فيها ، كان ما يكتبه ياقوت هو شيء غريب ، لم يسبقه إليه أحد من الكتاب .
كان يؤلف معجمًا عن معنى أسماء البلدان الاسلامية ، وأماكنها وتاريخها ومواقعها وأحوالها ، كان يرسم بالكلمات خريطة لكل بلدان المسلمين ، صورة لشعوبها ومساجدها وعاداتها ، وقال الشيخ مذهولاً :هل زرت كل هذه الأماكن يا ياقوت ؟ أجاب ياقوت : أجل يا سيدي ، كنت أعمل في قوافل التجار وقد سافرت كثيرًا ورأيت كثيرًا ورأيت أكثر ، ولكن عليّ أن أسافر حتى أستطيع أن أرى بقية بلدان المسلمين وأتم الكتاب .
كتاب ياقوت :
وظل الشيخ يقلب في الكتاب مذهولاً ، طوال عهده بالكتب لم يرى كتابًا كهذا ، قال : سوف يكون كتابًا رائعًا يا ياقوت ، سوف يساعد الرحالة على السفر ، والتجار على تسيير القوافل ، والحكام على تقدير الخوارج ، وسوف يساعد أهل الحكمة والتنجيم والأدب والشعراء ، يا له من كتاب يا ياقوت !!
ورد ياقوت وهو يجمع أوراقه : من أجل ذلك يجب أن أواصل السفر يا سيدي ..وهتف الشيخ في حرارة : كلا يا بني .. أجل سفرك قليلاً ولك مني الأمان وكرم الضيافة ، من النادر أن يستضيف المرء في بيته كاتبًا كبيرًا ، وسوف أساعدك على تأليف الكتاب بكل ما في وسعي ، والآن اتركني أذهب لصلاة الفجر ، ثم أعود إليك .
وضم الشيخ عباءته ، وغادر البيت مسرعًا ، لم يفطن ياقوت أنه مازال وقت طويل على قدوم الفجر ، ولكنه واصل الكتابة في استمتاع ، كانت الطرق تمتد والبلدان تظهر ، مثل كائنات حية تتطور وتنمو ، لكل مدينة شخصيتها ، وجودها الحي في المكان والزمان ، لم يكن ياقوت يتحدث عن أحجار صماء ، ولا طرق مقفرة ، كان يتحدث عن دولة مترامية الأطراف ، هويتها الإسلام ، تضم العرب والعجم والترك.
السيد والعبد مرة أخرى :
وسمع صوت الباب الخارجي وهو يغلق ، لابد وأنه الشيخ الطيب قد عاد من الصلاة ، ورفع رأسه ولكن وجد معه شخصًا آخر ، يا إلهي انه عسكر بن نصر الحموي ، السيد الذي اشتراه رقيقًا من سوق النخاسين ، كان مجرد غلام رومي ، أسير الحرب ، واشتراه بن نصر الحموي ، وعلمه القراءة والكتابة وكان تاجرًا مشهورًا ، وأخذه معه في كل رحلاته التجارية ، ولكنه عندما هبطا للراحة في بغداد انتهز ياقوت الفرصة وفر هاربًا ، وهتف عسكر وهو يشاهده : آه أيها الغلام الهرب ، لقد وقعت في يدي أخيرًا .
الحرية لوجه الله :
أسقط في يد ياقوت ، رمي القلم في يأس ، لقد وشى به الشيخ وسوف يعود عبدًا من جديد ، ولكن هاهو الشيخ يتقدم ويقول في حزم للسيد : تذكر ما اتفقنا عليه ، قبل كل شيء اقرأ الأوراق التي كتبها والكتاب الذي ينوى تأليفه ، وهدأ عسكر ، جلس على الأرض وأخذ يتفحص الأوراق ، وخيم الصمت برهة طويلة على الغرفة وأخذ ياقوت يتطلع في قلق نحو الباب ، كان يريد أن يقفز هاربًا .
ولكن عسكر بن نصر رفع رأسه وهو يقول : يا للذكاء الحاد ، كل هذه الأماكن ذهبنا إليها معًا ، ولكنه رأى كل الأشياء التي لم يراها ، كتاب رائع فعلاً ، من أجل هذا قد عتقتك لوجه الله ، هتف الغلام في فرح : حقًا يا سيدي ، قال عسكر : أجل ، أنت حر منذ الآن ، حر في السفر معي ومشاركتي تجارتي ، والتفرج على بقية البلدان ، التي لم تراها حتى تكتب كتابك في أحسن صورة .
الأديب الكبير ياقوت الحموي :
وابتسم الرجلان والغلام ، لقد شهدت هذه الليلة مولد أديب كبير هو ياقوت الحموي ، واحد من كبار الرحالة المسلمين ، الذين وضعوا أسس الجغرافيا عند العرب ، وكان كتابه معجم البلدان ، هو أول موسوعة وافية عن أحوال العالم الاسلامي ، في القرن الرابع الهجري ، ولم يكتف ياقوت بذلك ولكنه كتب معجما عن الدول في هذا الزمن ، ومعجما عن الشعراء ، وكتابًا عن أنساب العرب ، والعديد من الكتب التي أسس بها الحموي ، علم الجغرافيا الاسلامية ، وجعلته علمًا من أعلامها .