ولد أوتوفون بسمارك Otto Von Bismarck في عام ١٨١٥م ، من أسرة بروسية نبيلة في مقاطعة برندتبرج ، وكان والده قائدًا في الحرس الملكي البروسي ، بينما كانت والدته ابنة المستشار لا تكن أحد أصحاب الوظائف الدولية المرموقة ، وقد ورث بسمارك عن أمه الكياسة وحب الأدب والفن .
عُرفت عائلة بسمارك وبرزت في المجتمع ، واشتهر رجالها بامتيازهم في الحياة العسكرية ، وأكمل بسمارك تعليمه الثانوي في برلين ، ومن ثم درس القانون وعلم السياسة في جامعة جوتنجن وبرلين ، وبعد تخرجه عمل في المحاكم ، كما عمل في بعض المناصب القضائية وقضى خدمته العسكرية في بوتسدام قرب برلين .
وفي عام ١٨٤٧م حضر أول مجلس نيابي في برلين ، بصفته نائباً عن الإشراف في المجلس النيابي لسكسونيا ، لذا فقد اكتسب شهرة خلال هذه الفترة بكونه محافظاً يقاوم أي حركات تحررية ، وفي السنة التي تلتها انتخب عضوًا في مجلس الولاية ، ثم عضوًا في برلمان برلين سنة ١٨٤٨م .
وبعدها ظهر بمظهر المكافح القدير على توطيد نفوذ الملكية ، فأعادته حكومة الملك إلى خدمتها على أن يكون مندوبًا عنها في الرايخ الألماني ، والذي كان محور العداء القاتل الذي كانت تضمره النمسا لبروسيا .
كان الوضع الدولي ملائمًا لألمانيا منذ عام ١٨٧١م وحتى عام ١٨٩٠م ، وقد استفاد من ذلك المستشار بسمارك فعمل أولاً على اتخذ الموقف المتسامح كثيرًا مع النمسا والمجر ، وكان ليّنًا عمدًا في فرض شروط الصلح على الإمبراطور فرانسيس جوزف عام ١٨٦٦م .
وبحلول عام ١٨٧١م كانت الظروف الداخلية للملكية الثنائية ورغبة (آل هايسبرك) في تعويض ما تم خسارته من قبل ، لكل من إيطاليا وألمانيا وذلك بإتباع سياسة توسعية في البلقان ، وهذا ما شجعها على اتباع السياسة التوسعية على تأييد السلاح الألماني القومي ودبلوماسية بسمارك الماهرة .
وأدرك بسمارك الموقف مما دفعه لاتخاذ الحيطة والحذر ، وكان على يقين تام بقوته واستعداده ، نظرًا لما كان يملكه من أسلحة وأساليب دبلوماسية ودهاء سياسي ؛ لمقاومة أي هجوم قد تشنه فرنسا على ألمانيا ، فقد كان غرض بسمارك المحافظة على الإمبراطورية الألمانية وعدم زج ألمانيا في أية حروب أخرى ، وإتباع سياسة المحافظة على السلم في أوروبا .
وكان بسمارك على دراية تامة بأن فرنسا لن تغفر لألمانيا عملية اقتطاع كل من الألزاس واللورين ، وأنها سوف تنتقم عاجلاً أو آجلاً من ألمانيا ، مما دفع بسمارك على عزل فرنسا وتجريدها من أية تحالفات مع الدول الصديقة ، فكان بسمارك قلقًا إزاء أي اتحاد بين فرنسا والنمسا وروسيا وبريطانيا قد يقوم ضد ألمانيا ، ومنذ الوهلة الأولى شرع بسمارك بإتباع سياسة هدفها كسب ود وصداقة روسيا .
وأخذ بالتقرب من النمسا دون ابتعاد عن روسيا ولذلك العداء القائم ما بين روسيا والنمسا والتنافس فيما بينهما في جزيرة البلقان ، وهنا قام بمحاولات لترضية بريطانيا وعدم إغضابها ، وعلى الرغم من أن مهمة بسمارك كانت في غاية الصعوبة ، إلا أنه نجح في كسب صداقة كل من روسيا والنمسا وبريطانيا في آن واحد ، عملية تكاد تكون مستحيلة بسبب تصارع مصالح تلك الدول ، واختلاف سياساتها تجاه المشاكل الأوربية بصفة عامة ومشاكل البلقان بصفة خاصة.
التحالف الثلاثي ( ألمانيا – النمسا – إيطاليا) 1882م :
حاول بسمارك اجتذاب حليف آخر إلى جانبه ، ومن تجليات ذكائه أن جمع شمل كل من إيطاليا والنمسا في خندق واحد رغم ما بينهما من تضارب كبير في المصالح الحيوية ، وبوجه عام كانت الروابط بين إيطاليا وأوروبا الوسطى من أقدم الروابط في التاريخ الأوربي ، وكانت إيطاليا القومية أساسًا لانتصار ألمانيا القومية ، وما أن حل عام ١٨٨١م حتى صارت ألمانيا آمنة بين دول أوروبا.
ثم عمل بسمارك على تشجيع بريطانيا وفرنسا على مشروعات التوسع فيما وراء البحار ، فاحتلت فرنسا تونس واحتلت بريطانيا مصر ، وكانت إيطاليا ترغب في احتلال تونس منذ وقت طويل حتى تؤمّن حدودها ، ولكن مع احتلال فرنسا لها أحست إيطاليا بأنها معزولة وهنا توجهت إيطاليا لكل من النمسا والمجر لطلب العون في فك سيطرة فرنسا عن تونس ، وهنا أتت الفرصة لبسمارك حتى يستفيد من إثارة إيطاليا ضد فرنسا ، وحصل على دعوة مجانية لألمانيا لتكون طرفًا جديدًا ضد فرنسا.
وتم توقيع المعاهدة الثلاثية في فيينا في عام 1882م ، بين كل من إيطاليا والنمسا وألمانيا والذي عرف بالتحالف الثلاثي ضد فرنسا ، ثم تم تجديدها عام 1887م ، ونصت بنود المعاهدة الجديدة على ما يلي:
– إذا حدث وأن هاجمت فرنسا إيطاليا ، تدافع كل من النمسا وألمانيا عن إيطاليا.
– على إيطاليا أن تساعد ألمانيا ضد فرنسا إذا ما هاجمتها ، ولكنها غير ملزمة بالدفاع عن النمسا .
– إذا اشتركت دولة أخرى مع فرنسا في الهجوم على دول التحالف الثلاثي ، فإن دول التحالف تتحد ضد الدولتان المعتديتان ، وطالبت إيطاليا بعدم الوقوف في مواجهة بريطانيا.
كما تعهدت ألمانيا بمساعدة إيطاليا ضد فرنسا ، إذا ما نشبت حرب بينهما على دول شمال أفريقيا واستولت فرنسا على ليبيا ومراكش ، وتعهدت النمسا بمشاورة إيطاليا في حالة اقتسام الغنائم في بلاد البلقان .
تجلى دور بسمارك في ذكائه المتمثل طوال حياته الحافلة في دهائه السياسي ، والذي أدى إلى ارتفاع المانيا لمكانة بارزة في أوروبا ، دون مواجهة أي أخطار للدخول في حروب كبرى مع الدول المجاورة ، حيث كان البروسيون قادرون على الدخول في ثلاث معارك بأكملها ، ولكن عدم حدوث ذلك كان دليلاً قويًا على دهاء بسمارك وأهدافه الواضحة التي وضعها لبروسيا ثم ألمانيا .
دور بسمارك في مؤتمر برلين عام ١٨٧٨م :
عقب افتتاح مؤتمر برلين لجلسته الأولى ، بسطت النمسا سيطرتها على الممر المعروف باسم بنوفي بازار ، مما أدى إلى فصل صربيا عن الجبل الأسود وأشعل هذا الأمر سخط السلافييون –نسبة إلى سلوفاكيا- ، على حكومتي النمسا والمجر .
وهنا قام بسمارك بلعب دور الوسيط الأمين ؛ حيث قام بتوزيع الأملاك العثمانية على النمسا مما أثار غضب الجانب الروسي وخرجت بالفعل من اتحاد الأباطرة ، ولكن بسمارك لم يكن ليضحي بعلاقته بروسيا أبدًا وظل محافظًا عليها حتى النهاية.
وكان قد عُقد مؤتمر برلين برئاسة بسمارك وحضرته كل من بريطانيا وفرنسا وروسيا والنمسا ورومانيا وصربيا ومونتجر واليونان والدولة العثمانية ، ودامت المحادثات لعدة أسابيع ، نجح في نهايتها بسمارك في التوصل إلى اتفاق وتنازلت روسيا عن الكثير من مطالبها وخرجت من هذا المؤتمر ساخطة على بسمارك ، وعلى موقفه حيث كانت تريد أن يقف إلى جانبها لكونها حليفة له .
إلا أن المؤتمر اعترف باستقلال صربيا والجبل الأسود ورومانيا ومنح بلغاريا الاستقلال الداخلي ، وترك حكم الروملي الشرقي للسلطان على أن يعين واليا مسيحيًا من قبله توافق عليه الدول ، ولما رأت روسيا أن بلغاريا انكمشت إلى ثلث المساحة التي حددتها اتفاقية سان استيفانو ، طلب القيصر من الدول ألا تسمح بإبقاء جيش الدولة العثمانية في الروملي الشرقي ، إلا أن ذررائيلي رفض هذا الطلب رفضًا باتًا.
وتجلى الدور الذي لعبه بسمارك خلال هذا المؤتمر ؛ حيث نجح في كسب ود النمسا والمجر وجرهما إلى عقد تحالف ثنائي حتى يأمم ابتعادهما عن التحالف مع عدوه فرنسا ، ولكن هذا الموقف أغضب روسيا بشدة ، نظرًا لأنها لم تكن تتوقع من بسمارك أن يقف ضد طموحاتها في الحصول على البلقان ، ووصل الغضب حد التهديد بالانسحاب.
ورغم تلك المشاحنات إلا أن مؤتمر برلين يعد مؤتمرًا تاريخيًا ليس بما أنجزه فحسب ، وإنما بمحل انعقاده ، وأنه قد جعل ألمانيا ذات منزِلة قوية بين الدول الأوروبية وأسس لحقبة جديدة وميلاد ميزان متعادل القُوى يرتكز على ألمانيا .
ولم يتوقع رجال السياسة حينها أن تدوم تلك التسويات طويلاً ، كما أثبتت تلك التطورات التي حدثت لبسمارك أن البلقان لا يمكن أن تجعله صديقًا لفترة طويلة مع كل من النمسا وروسيا ، فرأى أن الإمبراطورية النمساوية هي الأقرب للتحالف بديلاً لروسيا المتقلبة ، وعندما توفى الإمبراطور وليم الأول عام 1888م وخلفه ابنه المريض فريدريك الثالث ، حيث توفي عقب فترة حكم هي الأقصر من نوعها عقب 99 يومًا من توليه العرش ، ماتت كل الآمال المنعقدة في حكومة تحريرية تقدمية.
ثم خلفه الإمبراطور وليم الثاني بداية من عام ١٨٨٨م وحتى عام ١٩١٨م ، وكان صغيرًا بالسن ولا يرغب في السير خلف بسمارك ، فقد كان يشبه الإمبراطور وليم الأول في تمتعه بالروح العسكرية ، ولكن مع القليل من الغرور والتهور بطريقة فتنت البعض ، فهو كان ذو 29 عامًا آنذاك ، ولكن تلك الطريقة لم تنل استحسان بسمارك والذي اعتاد على الحكم الرشيد وليس التهور كما كان يحدث في ذلك الوقت ، حيث بادره الإمبراطور وليم متسائلاً هل يجب أن تحكم أسرة هوهنزولرن أو أسرة بسمارك؟
وبحلول عام 1890م ، نشب خلاف بين الإمبراطور وليم الثاني والقائد بسمارك بشأن بعض الأمور الداخلية ، ومن ثم اتسع الخلاف حتى وصل للسياسة الخارجية ، لأن بسمارك كان يريد تجديد المعاهدة السابقة مع روسيا حتى يأمن الوقوع في صدام معها ، وكذلك مع النمسا بشأن البلقان .
وكذلك حتى لا تضطر روسيا إلى التقرب من عدوه الأول فرنسا ، ولكن الإمبراطور لم يكن واثقًا من الجانب الروسي ، وهنا نشبت الخلافات والنزاعات بين الإمبراطور وبسمارك وانتهت إلى تقديم بسمارك استقالته في ظروف كانت أوروبا فيها أحوج ما يكون لتلك العقلية الدبلوماسية الفذة .
سياسة ألمانيا بعد حكم بسمارك :
تغيرت السياسة الخارجية لألمانيا بعد رحيل بسمارك من الحكم ، فبدأت تتطلع إلى المزيد من المكاسب يصل إلى حد الأطماع ، وعدم الاكتفاء بما صنعه بسمارك على مدار فترة وجوده في الحكم ، وجاءت تلك السياسة الجديدة عقب مؤتمر برلين الثاني ومحاولات ألمانيا لمناوئة الدول الاستعمارية الكبري بريطانيا وفرنسا.
وقاد تلك التغيرات الإمبراطور وليم الثاني ، والتي نالت استحسانًا وتأييدًا من قبل الطبقات المثقفة في ألمانيا ؛ فانتشرت آنذاك الجمعيات والمبادرات المؤيدة لهذه السياسة والعمل على غرس الشعور بقوة ألمانيا في نفس الشعب الألماني ، وإعادة إحياء أمجاد الآباء بانتصارات ألمانيا على فرنسا في كل من سادوفا وسيدان.
ومع نمط التغيير الذي قادته ألمانيا ، كانت أهم مجالات تحقيق هذا التغيير هي المغرب في شمال أفريقيا ، ودول وسط أفريقيا ، وأشار مستشار الإمبراطور وليم الثاني بمعارضة سياسة فرنسا في شئون المغرب ؛ الأمر الذي عرقل الوفاق البريطاني الفرنسي آنذاك ، وكان ذلك في محاولة لعرقلة جهود فرنسا في المغرب وتحقيق المصداقية والمكاسب لكل البلاد هناك ، الأمر الذي أدى إلى حدوث أزمة دولية قوية ، انتهت بتحويل الموضوع ككل إلى مؤتمر دولي لبحث مستقبل المغرب وعادت مرة أخرى المعاداة بين كل من ألمانيا وفرنسا.