شهدت كافة الديانات السماوية ، العديد من التجاوزات والمذابح التي يندى لها الجبين ، باسم الدين ، ولكن من المعروف دائمًا بأن كل الديانات السماوية ، ينتمي لها بعض ممن يحيدون عنها ، ويتطرفون بأفعال ليس لها علاقة بالدين نفسه ، وإنما يتخذون من الدين ، ستارًا لأفعالهم حتى يبررون له .
من منا يتخيل أن باريس ، الجميلة الهادئة ، قد ذاقت مرارة القتل ، وشمّت رائحة الدماء السائلة على أرضها ، تلك المدينة الرائعة التي مثّلت عاصمة الثقافة والفن والرقيّ ، والحب والجمال ، تلك المدينة التي شهدت حصد الرؤوس ، وقطع الرقاب ، لرجال ونساء وأطفال! ولكن لماذا ؟ ومن السبب ؟ وما القصة؟ .
البداية ..
شهدت أوروبا في القرن السادس عشر ، العديد من الحروب الدينية بين كل من طائفتيّ ، الكاثوليك ، والبروتستانت ، تلك الحروب والمذابح التي حصدت آلاف الأرواح ممن يعتنقون الطائفتين ، لسنوات طويلة ، إلى أن وقع كل من قادة الكاثوليك والبروتستانت على معاهدة للسلام ، لإيقاف هذا النزيف الدموي البائس ، بين أبناء لديانة الواحدة .
وتم ذلك بينهما في عام 1570م ، تلك المعاهدة التي أنهت حربًا ضروسًا شرسة ، عُقدت المعاهدة بين لطائفتين ، وتم اقتراح تزويج شقيقة ملك فرنسا وهو كاثوليكي الطائفة ، إلى هنري الثالث ملك نافارا ، وهو معتنق للطائفة البروتستانتية ، وذلك ظنًا منهم بأنهم هكذا يتقاربون بشكلٍ ينهي ، حروبًا دموية ، طال أمدها ، إلا أنها لاحقًا ، باتت جذوة النار ، التي أحرقت وأزهقت آلاف الأرواح آنذاك .
أحداث مريرة ، وليلة مروّعة ..
بالفعل كما تم الاتفاق ، وبعد عقد المعاهدة بعامين ، بحلول عام 1572م بدأ التحضير لحفل الزواج ، الذي كان يُعتقد بأنه سوف يصير حاجزًا منيعًا لحروب أنهكت قوى كل من الكاثوليك والبروتستانت.
كانت أغلبية سكان باريس في هذا الوقت ، من الكاثوليك ، وبدأت وفود البروتستانت في الوفود ، إلى المدينة الجميلة من أجل حضور حفل الزواج الملكي ، والمشاركة في تلك المناسبة المهمة وفعالياتها ، وذلك بحضور كافة أثرياء طائفة البروتستانت ، وأمرائها ، وقادتها ، والشخصيات ذات الكلمة المسموعة في الطائفة بوجه عام .
ولكن ليس كل ما يتنماه المرء يدركه ؛ فعلى الرغم من مظاهر الاحتفالات والبهجة التي ملأت كافة شوارع باريس آنذاك ، إلا أن مشاعر الحقد والكراهية ، والنار كانت تأكل في قلوب البعض من الحاقدين ، من الطائفتين ، خاصة الكاثوليك الذين اشتعلت نيرانهم ، لرؤية تلك الأعداد المهولة من البروتستانت التي توافدت إلى مدينتهم .
ولم تكن تلك المشاعر العدائية والنيران بحاجة سوى لشرارة تشعلها ، وتُطلق نيرانها بين الطائفتين من جديد ، وبالفعل ، انطلقت جذوة الليلة الدامية في مدينة باريس ، عقب إعلان محاولة اغتيال أحد قادة البروتستانت ، والأكثر نفوذًا بينهم .
والذي تمت محاولة اغتياله عن طريق ، إطلاق عيار ناري أصابه بجروح أرقدته في الفراش ، ولكنها لم تقتله ، وتاريخيًا لا يُعرف حتى الآن ، من أطلق تلك الرصاصة ، ولكن تم ترشيح والدة الملك والحاكمة آنذاك لفرنسا ، بأنها هي من أطلق ودبر لتلك الرصاصة ، اعتقادًا منها بأن البروتستانت قد وفدوا للمدينة ، في محاولة منهم للانقلاب على الطائفة الكاثوليكية ، ولكن لم يتم التيقن من المعلومة حتى الآن .
بالطبع ، أثارت تلك الطلقة حنق البروتستانت ، ورابط شقيق الأدميرال البروتستانتي مع أربعة آلاف من جنوده ، حول باريس ، مما زاد من ترقب الكاثوليك ، واعتقادهم بأن الطائفة البروتستانتية تدبر للانتقام .
ليلة دموية ..
ذهبت لملكة في ذلك اليوم إلى ابنها الملك ، وتناقشا حول تأزم الوضع ، واتخذوا قرارهم بتصفية قادة البروتستانت مع الحرص على ألا يبقى من رواد تلك الطائفة أي شخص على قيد الحياة ، حتى لا ينتقم لمن سبقوه ، فرغم انتهاء مراسم العُرس إلا أن القادة كانوا قد بقوا في باريس لمناقشة بنود معاهدة السلام .
بالفعل ، تم توزيع الأسلحة على الجنود الكاثوليك ، وتم تمييز جنود الكاثوليك بوشاح أبيض يربط على الذراع حتى يعرفوا بعضهم البعض في الظلام ، وانطلقت ساعة الصفر في منتصف الليل ، بقرع أجراس القصر ، فانطلق فوج حماية الملك وقتل الأدميرال البروتستانتي المصاب ، حيث قُتل وسحبت جثته ، وألقيت من النافذة وتلقتها جموع الكاثوليك المنتظرة في الخارج ، وتم تقطيع الجثة إربًا ، وأرسلت رأسه إلى البابا في روما ، وتم تصفية بقية البروتستانت المنتظرون في قصر اللوفر عن بكرة أبيهم .
صارت حالة هستيرية بين أبناء الطائفتين ، فهجم الكاثوليكيين على الهوجنونت البروتستانت ، وقاموا بقتل الرجال واغتصاب النساء وقتلهن ، وتقطيع الأطفال إربًا ، ونهبوا متاجرهم ، وسرقوهم ، وسالت أنهار الدماء في الليلة بشكلٍ بشع .
حتى أن المؤرخين قد ذكروا ، بأن نهر السين كان قد امتلأ بالجثث ، مما دفع الناس للتوقف عن أكل الأسماك لمدة شهر عقب تلك الأحداث ، حيث كانت أحشائها تمتلئ ببقايا الجثث البشرية .
ورغم أن البلاط الملكي ، كان قد أمر بالتوقف عن القتل عقب تلك الليلة الدامية ، إلا أن البعض لم يتوقف ، واستمرت المذبحة لأسابيع طويلة ، لتشمل عدة مدن فرنسية أخرى ، وكانت حصيلة القتلى في تلك الأحداث بين مائتي ألف قتيل ، في واحدة من أبشع المجازر البشرية عبر التاريخ.