يقول الحق سبحانه وتعالى : (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ ) صدق الله العظيم .. فبعد أن تحدثت الآيات عن النموذج الإيماني الأعلى في الإنسان ، في شخص أبي الأنبياء إبراهيم ، وجعلت من أعظم مناقبه أن الله أمر خاتم رسله بإتباعه ، أخذت في بيان الملامح العامة لمنهج الدعوة إلى الله.
أمر الله للدعوة والإرشاد بالحكمة :
قوله : (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ ) الحق تبارك وتعالى لا يوجه هذا الأمر بالدعوة ، إلى رسوله صلى الله عليه وسلم إلا وهو يعلم أنه سينفذ ما أمر به ، وسيقوم بأمر الدعوة ، ويتحمل مسؤليتها ، (ادْعُ ) : بمعنى دل الناس وارشدهم .. (سَبِيلِ رَبِّكَ ) السبيل هو الطريق والمنهج ، والحكمة : وضع الشيء في موضعه المناسب ، ولكن لماذا تحتاج الدعوة إلى الله حكمة ..؟
لأنك لا تدعو إلى منهج الله إلا من انحراف عن هذا المنهج ، ومن انحرف عن المنهج ، الله تجده ألف المعصية وتعود عليها فلابد لك أن ترفق به لتخرجه ، عما ألف وتقيمه على المنهج الصحيح ، فالشدة والعنف في دعوة مثل هذا تنفره ، لأنك تجمع عليه شدتين : شدة الدعوة والعنف فيها ، وشدة تركه لما أحب وما ألف من أساليب الحياة ، فإذا ما سلكت معه مسلك اللين والرفق ، وأحسنت عرض الدعوة عليه طاوعك في أن يترك ما كان عليه من مخالفة المنهج الإلهي .
ومعلوم أن النصح في عمومه ثقيل النفس ، وخاصة في أمور الدين ، فإياك أن تشعر من تنصحه أنك أعلم منه أو أفضل منه ، إياك أن تواجه بما فيه من النقص ، أو تحرجه أمام الآخرين ، لأن كل هذه تصرفات من الداعية لا تأتي إلا نتيجة عكسية ، فهذه الطريقة تثير حفيظته ، وربما دعته إلى المكابرة والعناد .
قصة الحسن والحسين مع الإرشاد بالحكمة :
وهذه الطريقة في الدعوة هي المرادة من قوله تعالى : (بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ) صدق الله العظيم ، ويروى في هذا المقام ، مقام الدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة ، قصة دارت بين الحسن والحسين رضي الله عنهما ، هذه القصة تجسيد صادق لما ينبغي أن يكون عليه الداعية .
فيروى أنهما رأيا رجلاً لا يحسن الوضوء ، وأرادا أن يعلماه الوضوء الصحيح دون أم يجرحا مشاعره ، فما كان منهما إلا أنهما افتعلا خصومة بينهما ، كل منهما للآخر : أنت لا تحسن أن تتوضأ ، ثم تحاكما إلى هذا الرجل أن يرى كلا منهما يتوضأ ، ثم يحكم أيهما أفضل من الآخر وتوضأ كل منهما فأحسن الوضوء ، بعدها جاء الحكم من الرجل يقول : كل منكما أحسن ، وأنا الذي ما أحسنت ، إنه الوعظ في أعلى صوره ، والقدوة في أحكم ما تكون .
الشاب المجادل لنبيه :
مثال آخر للدعوة يضربه لنا الرسول صلى الله عليه وسلم ، حينما أتاه شاب في فورة شبابه ، يشتكي عدم صبره عن رغبة الجنس ، وهي من أشرس الغرائز في الإنسان ، جاء شاب وقال للرسول : (يا رسول الله ائذن لي في الزنا) .. هكذا تجرأ الشاب ولم يخف علته ، هكذا لجأ إلى الطبيب ليطلب الدواء صراحة ، ومعرفة العلة أول خطوات الشفاء ، فما قال رسول الله ؟
ما كان من الرسول إلا أن أخذه ، وربتّ على كتفه ، ثم قال : أتحبه لأمك ؟ قال : لا يا رسول الله ، جعلت فداك ، قال : فكذلك الناس لا يحبونه لأمهاتهم ..قال : أتحبه لأختك ؟ أجابه الشاب : لا يا رسول الله جعلت فداك ، فقال رسول الله : فكذلك الناس لا يحبونه لأخواتهم.
وهكذا حتى ذكر العمة والخالة والزوجة ، ثم وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده الشريفة على صدر الشاب ودعا له : ( اللهم نق صدره ، وحصن فرجه )..فقام الشاب وأبغض ما يكون إليه أن يزني ، وهو يقول : فوالله ما همت نفسي بشيء من هذا ، إلا ذكرت أمي وأختي وزوجتي .
التلطف واللين في الموعظة :
فلنتأمل هذا التلطف في بيان الحكم الصحيح ، فمعالجة الداءات في المجتمع تحتاج إلى فقه ولباقه ، ولين وحسن تصرف ، إننا نرى حتى الكفرة حينما يصنعون دواء مرًا يغلفونه بغلافة رقيقة حلوة المذاق ليستسيغه المريض ، ويسهل عليه تناوله ، وما أشبه علاج الأبدان بعلاج القلوب في هذه المسألة .
ويقول أهل الخبرة في الدعوة إلى الله : النصح ثقيل فلا ترسله جبلاً ، ولا تجعله جدلاً ، والحقائق مرة فاستعيروا لها خفية البيان… وكان صلى الله عليه وسلم إذا سمع عن شيء لا يرضيه من ذنب أو فاحشة ، في مجتمع الإيمان بالمدينة ، كان يصعد منبره الشريف ، ويقول : مابال أقوام قالوا كذا وكذا.