وقعت تلك القصة في زمن نبي الله موسى عليه السلام ، وهي تحمل بين طياتها عبرةً عظيمةً وعظةً للعالمين ، وعندما نزل القرآن الكريم على نبينا محمد صلّ الله عليه وسلم نزلت تلك الآية الكريمة التي تخبرنا قصة هذا الرجل بلعام بن باعوراء ؛ لتكون عبرة وعظة يتعلم منها كل موحد بالله سبحانه وتعالى .
حيث جاء في كتابه العزيز :{واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} {سورة الأعراف ، الآية 175 ، 176}.
بلعام بن باعوراء :
عاش هذا الرجل في زمن سيدنا موسى عليه السلام وتلقى العلم على يديه ، حيث تعلم التوراة على يدي النبي الكريم وأتم حفظها وفهمها ، حتى أصبح من أعلم بني إسرائيل وبلغ درجة من العلم لم يبلغها أحدٌ إلا الأنبياء والرسل ، وكان الكثيرون من بني إسرائيل يتلقون العلم على يديه ، ولقد قال الله تعالي في ذلك {واتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا} .
فلقد أتاه الله عزوجل من العلم ما لا يحصى ولا يعد وهذا من فضل الله عليه ، ومن تلك الآيات التي أعطاها الله له أنه كان مجاب الدعوة ، فأي دعوة كان يتوجه بها بلعام إلى أبواب السماء كان يحققها له الله سبحانه وتعالى ، ولكن بلعام كفر وضل عن طريق الحق بعد أن كان من المؤمنين .
قصة كفر بلعام بن عوراء :
لقد أرسل نبي الله موسى عليه السلام بلعام إلى أهل مدين لكي يدعوهم إلى التوحيد والإيمان برسالة نبي الله موسى ، ولكن أهل مدين أغروه بالمال والعطايا الكثيرة وعرضوا عليه كل ما يتمناه لكي يترك دعوة موسى ، وعرض عليه ملك مدين أن يتزوج بأجمل بنات مدين ، ويعيش بينهم غنيًا وسيدًا عليهم في مقابل أن يترك دين موسى عليه السلام وينضم إليهم .
فطلب منهم أن يعطوه مهلة كي يفكر فيما عرضوه عليه ، ثم أخذ حمارته وسار بها لكي يتخذ قراره ولكن شيطانه وهواه أرشده إلى ترك الحق وإتباع الهوى ، فلقد اختار الدنيا الفانية وفضلها عن الآخرة الباقية ، وعماه حبه للمال والجاه عن حب الله ، ولما أخذ حمارته عائدًا لهم ليقيم معهم ويترك الحق نفرت منه الحمارة وسجدت لله سبحانه وتعالى .
وهكذا كفر بلعام العابد العالم بعد أن كان من المؤمنين ، وعندما قرر سيدنا موسى أن يسير بقومه إلى تلك الأرض ليدعوهم إلى دين الحق ، نزل قريبًا منهم فلما علم الكنعانيون بالأمر هرعوا إلى بلعام يستنجدون به ، ويقولون له لقد جاء موسى بن عمران ليخرجنا من أرضنا ويقتلنا ونحن قومك ، فقال لهم بلعام وماذا أفعل ؟
فقالوا له أنت رجل مجاب الدعوة فأدع على موسى وقومه ، فقال لهم بلعام ويحكم !! إن هذا نبي الله وهؤلاء قومه كيف أدعوا عليهم إنكم تلقون بي إلى التهلكة ، واستمروا في تحريضه حتى أطاعهم بلعام وصعد إلى الجبل ودعا على سيدنا موسى ومن معه .
وكان كلما دعا على سيدنا موسى وقومه بسوء أو هزيمة ، حول الله لسانه بهذا الدعاء على قومه من الكنعانيين ، وكلما دعا لقومه بالنصر والخير حول الله لسانه بهذا الدعاء إلى قوم سيدنا موسى عليه السلام فيعم عليهم الخير والبركة ، فذهب إليه الكنعانيون وقالوا له : أنت تدعوا علينا بالهزيمة والشر !
فقال بلعام : أنا أعلم ولكني لا أملك تغيير ذلك فكل ذلك يحدث دون إرادتي ، فقالوا له هل ستتركنا هكذا فماذا نحن فاعلون ؟ فقال لهم سأحتال وأمكر حتى تتمكنوا من هزيمة بني إسرائيل ، وقال لهم : إذا ارتكب بنو إسرائيل المعاصي فسيخذلهم الله ، وفكر بلعام في حيلة وهي أن يجملوا نسائهم وأن يعطوهم السلع ليذهبوا بها إلى بني إسرائيل ، ولا تمتنع أي منهن عن أي رجل من بني إسرائيل إن أرادها .
وطلب منهم أن تترك زوجاتهم رجال بنو إسرائيل يزنون بهن وبهذا يصبحوا من العاصين ، وبالفعل هذا ما حدث فأرسل الله سبحانه وتعالى الطاعون ببني إسرائيل ، وكان هناك رجلًا يدعى صحاح بن عيراد كان غائبًا عن المدينة ، وعندما حضر أخذ حربته ودخل على من يزني ثم قتله وخرج به من قبة البيت رافعًا يديه إلى السماء .
وهو يقول : اللهم هكذا نفل بمن يعصيك ، فعفى الله عنهم ورفع عنهم الطاعون ، وقد بلغ عدد الهالكين منهم 70 ألف ، أما بلعام فضرب الله به المثل والعبرة لكل من أتاه الله العلم وارتد إلى المعاصي وحطام الدنيا الزائلة رغم علمه بطريق الحق الذي لا طريق غيره ، ولكنها شهوة النفس والطمع .