قال الله تعالى في كتابه الكريم : (وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا ۖ وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي ۚ إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ) .. صدق الله العظيم .
سيدنا يوسف وسجود والديه :
وقد رفع يوسف أبويه على العرش لأنه لم يحب التميز عنهم ، وهذا سلوك يدل على المحبة والتقدير والإكرام ، والعرش هو سرير الملك الذي يدبر منه الحاكم أمور الحكم ، وهو قد خروا سجدا لله من أجل جمع شمل العائلة ، ولم يخروا سجدا ليوسف : بل خروا سجدا لمن يخر سجودًا إليه ، وهو الله .
وللذين حاولوا نقاش أمر السجود آل يعقوب ليوسف ، نقول : هل أنتم أكثر غيرة على الله منه سبحانه ؟!.. ويقول يوسف عليه السلام مواصلاً المناجاة لله : (أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ ) .. صدق الله العظيم .
الحق سبحانه وعطاءه :
وصحيح أن الحق سبحانه وتعالى وليّ يوسف في الدنيا ، وقد نصره وقرّبه وأعانه ، بتذليل كل ما مرّ به من عقبات ، ويرجو يوسف ويدعو ألا يقتصر عطاء الله له في الدنيا الفانية ، وأن يثبته أيضًا في الباقية الآخرة ، ومادام سبحانه وليّه في الدنيا والآخرة ، فيوسف يدعوه : (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ) صدق الله العظيم ، وقوله : (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ) ، إنما بسبب أن يكون أهلا لعطاء الله له في الآخرة ، فقد أخذ يوسف عطاء واستمتع به ، ومتع به ، ومشيّ فيه بما يرضي الله ، وعند تمني يوسف للوفاة وقف للعلماء ، وقالوا : ما تمناها أحد إلا يوسف ، فالإنسان إن كان موفقًا في الدنيا ، تجده دائم الطموح ، وتواقًا إلى المزيد من الخير .
عمر بن عبدالعزيز والخلافة :
وتحمل لنا ذاكرة التاريخ عن أمير المؤمنين عمر بن عبدالعزيز أنه قبل الإمارة ، حينما كانوا يجيئون له بثوب ناعم ، كان يطلب الأكثر منه نعومة ، وإذا جيء بطعام لين ، كان يطلب الأكثر ليونة ، وحين صار خليفة ، كانوا يأتون بالثوب ، فيطلب الأكثر خشونة ، وظن من حوله أنه لم يعد منطقيًا مع نفسه ، ولم يفهموا أن له نفسًا تواقة إلى الأفضل ، تستشرف الأعلى دائمًا، فحينما تاق إلى الإمارة جاءته ، وحين تاق إلى الخلافة جاءته ، ولم يبق بعدها إلا الجنة .
ميمون بن مهران وعمر بن عبدالعزيز :
ونجد ميمون ابن مهران وكان ملازما له ، رضيّ الله عنه وأرضاه دخل عليه مرة فوجده يسأل ربّه الموت ، فقال : يا أمير المؤمنين ، أتسأل ربك الموت وقد صنع الله على يديك خيرًا كثيرًا ، فأحييت سننا ، وأمت بدعًا ، وبقاؤك خير للمسلمين ؟
فقال عمر بن عبدالعزيز : ألا أكون كالعبد الصالح حينما أتم الله عليه نعمته ، فقال : (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ).. صدق الله العظيم ، وقوله : (تَوَفَّنِي مُسْلِمًا ) مكونة من شقين : الشق الأول طلب الموت ، والشق الثاني أن يموت مسلمًا ، وكلنا يتوفى دون أن يطلب ، وعلى ذلك يكون الشق الأول والشق الثاني .