كان للفتنة الكبرى التي وقعت بين المسلمين بعد مقتل عثمان بن عفان أثرًا كبيرًا في تغيير المسار التاريخي للإسلام ، حيث انشغل المسلمين عن الفتوحات الإسلامية بقتال بعضهم البعض ، وكان من المعارك التي وقعت بين المسلمين في هذا الوقت معركة صفين.

دارت هذه المعركة بين جيش معاوية بن أبي سفيان وجيش علي بن أبي طالب رضي الله عنهما ، وذلك بسبب الخلاف الذي نشب بينهما حول قتلة خليفة المسلمين آنذاك عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فمعاوية كان يرى أنه ولي دم عثمان بن عفان كونه ابن عمه وكان يرغب في القصاص من قتلته ، وكان إلى جانبه السيدة عائشة وعبدالله بن الزبير وعمرو بن العاص .

أما علي بن أبي طالب فكان يطالبهم أولاً بالبيعة له حتى تجتمع الكلمة للمسلمين ، ومن ثم يتم البحث في قضية مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنه ، ولكن لم تبايعه الشام وعلى رأسها معاوية ، فصدر قرار من علي بن أبي طالب بعزله عن ولاية الشام ولكن لم يستجب له معاوية فكانت هذه هي الشرارة الأولى التي بدأت منها الفتنة وحدث الخلاف بين المسلمين .

حيث بعث إليه الإمام رضي الله عنه كتباً كثيرة حتى حل الشهر الثالث لمقتل الخليفة عثمان بن عفان ، ولكن معاوية لم يرد على أي منها ، ثم بعث رسالة في النهاية مع رجل لعلي بن أبي طالب ، فلما دخل على عليّ قال له : ما وراءك ؟ فقال الرجل : جئتك من عند قوم لا يريدون إلا القود ، كلهم موتور ، تركت ستين ألف شيخ يبكون تحت قميص عثمان ، وهو على منبر دمشق ، فقال علي : اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان .

ثم لما رأى عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه إصرار معاوية على الثأر وعدم قبوله للحوار وتقريب وجهات النظر ، عزم على قتال أهل الشام وعلى رأسهم معاوية ، فكتب إلى قيس بن سعد والي مصر أنذاك يستنفر الناس للقتال فبايعه أهل مصر ووقفوا إلى جواره إلا قلة قليلة ، وأرسل إلى أبي موسى الأشعري بالكوفة ثم خطب في الناس وحثهم على التجهز للقتال وبالفعل خرج على بن أبي طالب في جيشه .

وأرسل عاوية رضي الله عنه جيشه إلى صفين فعسكروا فيها قبل جيش علي رضي الله عنه ، وقد أمر الله سيدنا علي قواده قبل القتال بعرض البيعة مرة أخرى على جيش معاوية وخطب في جيشه قائلاً :

“لا تقاتلوهم حتى يقاتلوكم ، فأنتم بحمد الله على حجة ، وترككم قتالهم حجة أخرى ، فإذا هزمتموهم فلا تقتلوا مدبراً ولا تجهزوا على جريحٍ ولا تكشفوا عورةً ولا تمثلوا بقتيل ، وإذا وصلتم إلى رحال القوم فلا تهتكوا ستراً ولا تدخلوا داراً ولا تأخذوا شيئاً من أموالهم ، ولا تهيجوا امرأة وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم وصلحاكم ، فإنهن ضعاف القوى والأنفس”.

وكان الأشتر النخعي على جيش سيدنا علي  بينما كان حبيب بن مسلمة يقود جيش معاوية ، ووقعت المعركة بينهما في سنة 37 للهجرة النبوية الشريفة في منطقة صفين على نهر الفرات شرق سوريا ، وكان ذلك بعد موقعة الجمل بعام واحد .

حيث التقي الجيشان واشتعلت المعركة في شهر ذي الحجة و لم تهدأ أبدًا ، ففي اليوم الأول الأربعاء الموافق غرة صفر سنة 37 هجرية دارت المعركة التي كان يقودها الأشتر النخعي على رأس جيش علي رضي الله عنه ، واستمرت من الصباح الباكر حتى مغرب الشمس وقتل فيها الكثير من الطرفين .

وفي اليوم الثاني من صفر عين علي بن أبي طالب هاشم بن عتبة رضي الله عنه قائدًا للجيش ، وعين معاوية أبا الأعور السلمي ودار قتال عنيف بين الجيشين ولم ينتصر أحدهما على الأخر ، وفي اليوم الثالث وهو يوم الجمعة الموافق 3 من صفر سنة 37 هجرية عين علي بن أبي طالب عمار بن ياسر وكان عمره وقتها تسعين عامًا ، وعين معاوية يومها عمرو بن العاص على جيشه .

وتقاتل الجيشان بضراوة بالغة ولكن أيضًا لم يتغلب جيش أحدهما على الأخر ، فدارت المعركة في اليوم الرابع الذي عين فيه علي رضي الله عنه محمد بن الحنفية ، وعين معاوية عبيدالله بن عمر بن الخطاب ودار بينهما قتالٌ عنيف دون أن ينتصر جيش على الأخر .

ولما جاء اليوم الخامس استعد جيش معاوية بقيادة الوليد بن عقبة وكان على رأس جيش علي رضي الله عنه عبد الله بن عباس وأيضًا لم ينتصر أحد فيهما على الأخر ، ودارت المعركة بضراوة بالغة واشتدت يومًا بعد يوم حتى اليوم التاسع من صفر سنة 37 هجرية .

فقام علي بن أبي طالب رضي الله عنه بأداء صلاة الفجر ، واتجه بنفسه إلى ساحة المعركة وبدأ القتال وقام وحده بالإجهاز على خمسمائة مقاتل من جيش معاوية ، ليحصد بذلك انتصارًا وتقدمًا على جيش معاويةوكان ذلك في يوم الجمعة (يوم الهرير) ، فاستدعي معاوية عمرو بن العاص ليشاوره في الأمر ، فأشار عليه بأن يرفع جيش معاوية المصاحف ليعلم الطرف الأخر بأن القرآن هو الحكم بيننا .

وبالفعل توقف القتال فقد كان رد فعل ذلك أن قامت مجموعة بالخروج على سيدنا علي رضي الله عنه ، ونادوه باسمه أن يستجيب للأمر وإلا قاموا بقتله ، حيث خرج عنه مسعر بن فدكي التميمي وزيد بن حصين الطائي ثم السنبسي في مجموعة من القراء الذين صاروا من الخوارج فيما بعد قائلين :

يا على أجب إلى كتاب الله عزوجل إذ دعيت إليه وإلا ندفعك برمتك إلى القوم أو نفعل كما فعلنا بابن عفان ، إنه علينا أن نعمل بما في كتاب الله عز وجل فقبلناه والله لتفلنها أو لنفعلنها بك .

قال : فاحفظوا عنى نهيي إياكم واحفظوا مقالتكم لي أما أنا فان تطيعوني تقاتلوا وإن تعصوني فاصنعوا ما بدالكم  وبعدها اختار علي رضي الله عنه التحكيم مكرهًا وهذا نقلًا عن رواية أبي مخنف.

وفوض علي أبو موسي الأشعري وفوض معاوية عمرو بن العاص واجتمعوا في دومة الجندل ، ووقعت الصحيفة بوقف القتال وعودة جيش علي إلى الكوفة وعودة جيش معاوية إلى الشام ، وقدرت الخسائر البشرية حينها من جيش علي رضي الله عنه بـ 25 ألفًا ، أما خسائر جيش معاوية رضي الله عنه فقدرت بـ 70 ألفا ، رحمهم الله جميعًا وأطفأ نار الفتنة بين المسلمين في كل العصور .

والجدير بالذكر هنا أن كل هؤلاء الصحابة لم ينسوا حرمة الدم المسلم ولكنها الفتنة التي أحمى المنافقين وطيسها وغرق فيها المسلمين فهم غير معصومين من الخطأ ، وفي هذا يقول الله عزوجل في سورة البقرة{ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (سورة البقرة ، الآية 253) .

ويقول علامة الإسلام ابن تيمية : بأن قتال الصحابة لم يظهر فيه سرور وتمنوا ألا يقع أبدًا ، وبهذا برأ العلامة الفريقين من الكفر والنفاق  .

By Lars