يقول الله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } الناس في الحياة الدنيا على ثلاثة أحوال ، إما مؤمن وإما كافر وإما منافق ، والله سبحانه وتعالى في بداية القرآن الكريم في سورة البقرة .. أراد أن يعطينا وصف البشر جميعا بالنسبة للمنهج وأنهم ثلاث فئات .
الفئة الأولى :
الفئة الأولى هي المؤمنون عرّفنا الله سبحانه وتعالى صفاتهم في ثلاث آيات في قوله تعالى : الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ..
الفئة الثانية :
والفئة الثانيه عليه السلام : هم الكفار وعرفنا الله سبحانه وتعالى صفاتهم في آيتين في قوله تعالى : {خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } .
المنافقين :
وجاء للمنافقين وعرف صفاتهم في ثلاث عشرة آية متتابعة لماذا ؟.. لخطورتهم على الدين ، فالذي يهدم الدين هو المنافق ، أما الكافر فنحن نتقيه ، ونحذره لأنه يعلن كفره ، إن المنافق يتظاهر أمامك بالايمان ، لكنه يبطن الشر والكفر ، وقد تحسبه مؤمنا فتطلعه على أسرارك فيتخذها سلاحا للطعن في الدين .
وقد خلق الله في الانسان ملكات متعددة ولكي يعيش الانسان في سلام مع نفسه لابد أن تكون ملكاته منسجمة وغير متناقضة ، فالمؤمن ملكاته منسجمة لأنه اعتقد بقلبه في الايمان ، ونطق لسانه بما يعتقد فلا تناقض بين ملكاته أبداً والكافر رفض الايمان وأنكر بقلبه ، ولسانه ينطق بذلك ، ولكن الذي فقد السلام مع ملكاته هو المنافق ، إنه فقد السلام مع مجتمعه وفقد السلام مع نفسه ، فهو يقول بلسانه ما ليس في قلبه ، يظهر غير ما يبطن ، ويقول غير ما يعتقد ويخشى أن يكشفه الناس فيعيش في خوف عميق .
تناقض طباع المنافق :
فالمنافق يعتقد أن ذلك شيء مؤقت سينتهي ، ولكن ذلك التناقض يبقى معه إلى آخر يوم في حياته في الدنيا ، ثم ينتقل معه إلى الاخرة فينقض عليه ليقوده إلى النار ، كما جاء في قوله سبحانه وتعالى : {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا ۖ قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ }.
فالسلام الذي كانوا يتمنونه لم يحققوه لا في حياتهم ولا في آخرتهم ، فلسان المنافق يشهد عليه ، ويداه تشهدان عليه ، ورجلاه تشهدان عليه والجلود تشهد عليه ، فماذا بقي له ؟.. بينه وبين ربه تناقض ، وبينه وبين آخرته تناقض ، وبينه وبين الكافرين تناقض ، يقول لسانه ما ليس في قلبه .
أولى صفات المنافق :
ولقد وصفهم الحق في كتابه الخالد فقال سبحانه : { وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } ، وهذه أول صفات المنافقين في القرآن ، يلعنون الايمان وفي قلوبهم كفر ، لذلك فان كل ايمانهم تظاهر إذا ذهبوا للصلاة لا تكتب لهم لأنهم يتظاهرون بها ولا يؤدوها عن ايمان .
وإذا أدوا الزكاة ، فإنها تكون عليهم حسرة ، لأنهم ينفقونها وهم لها كارهون ، لأنها في زعمهم نقص من مالهم ، لا يأخذون عليها ثوابا في الآخرة وإذا قتل واحد منهم في غزوة ، انتابهم الأسى ، لأنهم أهدروا حياتهم ولم يقدموها في سبيل الله ، وهكذا يكون كل ما يفعلونه شقاء بالنسبة لهم .
شقاء المنافق في الدنيا والآخرة :
أما المؤمن فحين يصلي أو يؤدي الزكاة أو يستشهد في سبيل الله فهو يرجو الجنة ، وأما المنافقون فهم يفعلون كل هذا ولا يرجون شيء ، فكأنهم بنفاقهم قد حكم الله عليهم بالشقاء في الدنيا والآخرة ، فلا هم في الدنيا لهم متعة المؤمن ، فيما يفعل في سبيل الله ، ولا هم في الآخرة لهم ثواب المؤمن فيما يرجو من الله ، وقد قال تعالى : {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ }.
ثاني صفات المنافق :
وتأتي الصفة الثانية من صفات المنافق ، وهي صفة تدل على غفلتهم وحمق تفكيرهم ، فإنهم يحسبون بنفاقهم يخدعون الله وهل يستطيع بشر أن يخدع رب العالمين ؟ إن الله عليم بكل شيء ، عليم بما نخفي وما نعلن ، عليم بالسر ، وما هو أخفى من السر ، وهل يوجد ما هو أخفى من السر ، نقول : نعم ، السر هو ما أسررت به لغيرك فكأنه يعلمه اثنان ، أنت ومن أسررت إليه ، ولكن ما هو أخفى من السر ما تبقيه في نفسك ولا تخبر به أحداً إنه يظل في قلبك ، لا تسر به لإنسان والله سبحانه وتعالى يقول : { وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى } .
فلا يوجد مخلوق يستطيع أن يخدع خالقه ولكنهم من غفلتهم يحسبون أنهم يستطيعون خداع الله عز وجل جلاله ، وفي تصرفهم هذا لا يكون هناك سلام بينهم وبين الله ، بل يكون هناك مقت وغضب .
الاعتقاد بخداع المؤمنين :
وهم في خداعهم يحسبون أيضا أنهم يخدعون المؤمنين ، بأن يقولوا أمامهم ما غير ما يبطنون ، ولكن هذا الخداع شقاء عليهم لأنهم يعيشون في خوف مستمر وهم دائما في قلق أو خوف من انهم يكشفون المؤمنون ، أو يستمعوا إليهم في مجالسهم الخاصة ، وهم يتحدثون بالكفر ويسخرون من الايمان ولذلك إذا تحدثوا لابد أن يتأكدوا أولًا من : أن أحدا من المؤمنون لم يسمعهم ، ويتأكدوا ثانيًا : من أن أحدا من المؤمنون لن يدخل عليهم وهم يتحدثون ، والخوف يملأ قلوبهم أيضاً وهم مع المؤمنين ، فكل واحد منهم يخشى أن تفلت منه كلمة تفضح نفاقه وكفره .
المنافقون يخادعون أنفسهم :
والحقيقة أنهم لا يخدعون إلا أنفسهم لأنه الله سبحانه وتعالى يقول : {وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ ۚ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ۚ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ}
ألم يأت المنافقون إلى رسول الله ليشهدوا أنه رسول الله ففضحهم الله أمام رسوله وأنزل قوله تعالى : {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } .
فقد جاء المنافقون إلى رسول الله ليشهدوا بصدق رسالته والله تعالى يعلم أن هذه شهادة حق وصدق لأنه جل جلاله يعلم أن رسول الله صلّ الله عليه وسلم صادق الرسالة ولكنه في الوقت نفسه يشهد بأن المنافقون كاذبون .. كيف ؟
المنافقون الكاذبون :
فكيف يتفق كلام المنافقون مع كلام الله ، ثم يكونوا كاذبين ؟ .. وذلك لأنهم يقولوا بألسنتهم ماليس في قلبوهم ، فهم شهدوا بألسنتهم فقط أن محمد رسول الله ولكن قلوبهم منكرة لذلك مكذبة له ، ولأن الصدق هو أن يوافق الكلام حقيقة ما في القلب ، وهؤلاء كذبوا في شهادتهم لرسول الله لم يكونوا يعبرون عن واقع في قلوبهم ، بل قلوبهم تكذب ما يقولون .
المنافقون مرضى :
ويقول تعالى في كتابه الكريم : {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } ، فالله سبحانه وتعالى شبه ما في قلوب المنافقين بأنه مرض والمرض أولًا : يورث السقم ، فكأن قلوبهم لا تملك الصحة الايمانية التي تحيا بالقلب فتجعله قويًا شابًا ، ولكنها قلوب مريضة ، فلماذا كانت مريضة ؟ ، لقد أتعبها النفاق وأتعبها التنافر مع كل من حولها وأحست أنها تعيش حياة يملؤها الكذب فاضطراب القلب جعله مريض .
الشفاء من مرض النفاق :
ولا يمكن أن يشفى المنافق إلا باذن الله ، وعلاجه هو الايمان الحقيقي الصادق ذلك الذي يعطيه الشفاء ، والله سبحانه وتعالى يقول : { وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ۙ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا } ، إذا فالإيمان والقرآن هما شفاء القلوب ، وكلاهما بعيد كل البعد عن قلوب المنافقين ، فكأ المرض يزداد في قلوبهم مع الزمن .
الصفة الثالثة للمنافق :
والله سبحانه وتعالى ، بنفاقهم وكفرهم يزيدهم مرضاً ، وتلك هي الصفة الثالثه للمنافقين ، حيث لا يدخل نور الايمان في قلوبهم ، لذلك فهي قلوب ضعيفة ليس فيها القوة اللازمة لمعرفة الحق ، وهي قلوب خائفة من كل ما حولها ، مرتعبة في كل خطواتها ، مضطربة بين ما في القلب وما على اللسان ..
لذلك فاذا دخل هؤلاء المنافقين في معركة في صفوف المسلمين ، فأول ما يبحثون عنه هو الهرب من المعركة أو مخبأ يختفون فيه ولا يراهم أحد ، وقد قال تعالى في كتابه الكريم :{ لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَّوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } .
عقاب المنافق في الآخرة :
وليت الأمر يقتصر عند ذلك الحد ، ولكن ينتظرهم في الآخرة عذاب أليم غير العذاب الذي عانوه من قلوبهم المريضة في الدنيا ، فبما كانوا يكذبون على الله ورسوله ننتظرهم في الآخرة عذاب أليم أشد من عذاب الكافرين ، والله سبحانه وتعالى يقول : { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا} .