وقف شابًا لم يبلغ العشرين من عمره خطيبًا ، فخطب خطبًة بليغة لم يسمع بمثلها ، فقال عمرو بن العاص : أما والله لو كان هذا الغلام قريشيًا لساق العرب بعصاه ؛ أي حكم العرب فمن هذا الفتي الذي تكلم فأحسن الحديث وبهر بلسانه القوم ، وتنبأ له فارس العرب بالذكاء والزعامة ؟ انه زياد بن سمية ، وسمية هذه كانت جارية للحارث بن كلدة طبيب ثقيف.
وسمي بزياد بن عبيد الثقفي نسبة إلى مولاه الذي اعتقه بعد أن دفع له ألف درهم ، أسلم زياد في عهد الخليفة الأول ، وكان عاقلًا مفوها حين يتحدث ، له قدلا وجلالة عند الناس ، داهية لا منازع لها في الخطابة ، استعمله عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض أعمال البصرة ، وكان كاتبًا لأبي موسى الأشعري.
بعث الفاروق زياد بن عبيد الثقفي في إصلاح فساد وقع في اليمن ، فرجع زياد من مهمته وقد قام بها خير قيام ، فدخل علي أبي حفص وعنده رجال من المهاجرين والأنصار ، فخطب خطبة لم يسمعوا بمثلها فقال عمرو بن العاص : ما أعظم هذا الغلام لو كان أبوه من قريش لساق العرب بعصاه .
وكان أبو سفيان بن حرب حاضرًا فقال : والله إني لأعرف أباه ومن وضعه في رحم أمه ، فتساءل أبو الحسن : ومن هو يا أبا سفيان ؟ قال أبو سفيان بن حرب : أنا ، فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، يا أبا سفيان أسكت فلو سمعها عمر لكان سريعًا إليك ، لقد كان أبو سفيان يخشى قول الأعادي إن عرفوا بأمر ولده ، ولكن إلى متى يخفي سرًا كهذا ، لقد وقع على سمية في الجاهلية ، فأنجبت زيادًا .
ولما قتل أمير المؤمنين عثمان بن عفان كشرت الفتنة عن أنيابها ، وكانت مخالبها بين أنامل أربعه من أذكياء العرب : معاوية بن أبي سفيان ، وعمرو بن العاص ، وزياد ابن أبيه ، وقيس بن سعد ، ولما انتهت وقعة الجمل دخل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب البصرة ، فبايعه أهلها ، واستأمنوه على حياتهم حتى الجرحى منهم .
وكان زياد بن سمية معتزلًا الفتنة ، فلما رأى عمار بن ياسر يقف بجانب أمير المؤمنين علي ، عرف أن أبا الحسن علي الحق ؛ فقد أخبره الرسول صلّ الله علية وسلم أن عمار بن ياسر يدور مع الحق حيث دار ، وأن الفئة الباغية تقتل عمار بن ياسر ، فأخذ زياد ابن أبيه مكانه بجانب الحق فولاه أمير المؤمنين علي على بيت المال.
وحينما سار زياد ابن أبيه إلى فارس في جمع كثير ، فألقى الرعب في قلوبهم وراح يبعث إلى رؤسائهم ، يعد من ينصره ويمنيه ويخوف من امتنع عليه ، وضرب بعضهم ببعض فدل بعضهم علي عورة بعض ، وهربت طائفة وأقامت طائفة فقتل بعضهم بعضا ، وصفت لزياد بن سمية الأمور ، ولم يلق منهم حربًا وأدوا الضرائب .
ولما رأى معاوية بن أبي سفيان أن زياد بن سمية قد ضبط بلاد فارس ، وجبي الخراج وأصلح الفساد ، فكتب إليه معاوية بن أبي سفيان ملوحًا بصلة الرحم التي بينهم ؛ ليفسده علي أمير المؤمنين علي ، فماذا فعل زياد ؟ بعث بكتاب معاوية إلى أمير المؤمنين علي ، فكتب إليه أبو الحسن : إنما وليتك ما وليتك ، وأنت أهل لذلك ولن تدرك ما تريد مما أنت فيه إلا بالصبر واليقين ، وإنما كانت من أبي سفيان فلتة زمن عمر ، ويقصد بذلك اعتراف أبي سفيان ببنوة زياد .
فلما قرأ زياد بن سمية كتاب أمير المؤمنين علي قال : شهد لي ابو الحسن ورب الكعبة أني ابن أبي سفيان حرب ، ولما قتل أمير المؤمنين علي بايع الناس ابنه الحسن بن علي ، وبايعه زياد بن عبيد فأقره الحسن علي بلاد فارس ، فأرسل له معاوية يتهدده ويتوعده ولكنه قام وخطب في الناس خطبة عصماء عن هذا الوعيد ، وأكد أنه في كتف الحسن مادام حيًا .
ولما أراد الحسن حقن دماء المسلمين تنازل عن الملك لمعاوية ، وكان زياد محصنا بقلعته التي بناها ، فلما طلب منه معاوية الحضور لم يرتح لقوله فلم يخرج له ولم يبايعه حتى أرسل له معاوية المغيرة بن شبعة داهية ثقيف ، فأشار عليه أن يربط حبله بحبل معاوية ، ولما ذهب إليه كان أول ما فعل محاولة إثبات نسبة لأبي سفيان فشهد مع القوم ، وأعلنه معاوية أخًا له وزوجه ابنته من محمد بن زياد ابن أبي سفيان.
كان زياد بن أبي سفيان أول من شدد أمر السلطان ، وأكد الملك لمعاوية وجرد سيفه ، وأخذ بالظن وعاقب علي الشبهة ، فخافه الناس خوفًا شديدًا حتى أمن بعضهم بعضًا ، وكان الشيء يسقط من يد الرجل أو المرأة ، فلا يعرض له أحد حتى يأتيه صاحبه فيأخذه ولا يغلق احد بابه ، وتوفي زياد بن أبي سفيان سنة ثلاث وخمسين من الهجرة وهو ابن ثلاث وخمسين سنة .