كان المسلمون في طريقهم نحو تبوك ، وقد استشعر بعضهم غياب عددًا من الصحابة ، فبدؤوا يقولون للرسول صلّ الله عليه وسلم ، يا رسول الله تخلّف فلان ، فظل الرسول يقول لهم ويأمرهم ألا ينشغلوا بغيرهم وأن يدعوا كل شخص وشأنه ، فإن كان هذا الشخص فيه خير فسيلحقه الله بهم ، أما إن كان به شر فقد أراحهم الله منه.
بالطبع انتهى الكلام في هذا الموضوع عند هذا الحد ، ولكن نظرًا لمكانة أبي ذر الغفاري التي لا تخطئها عين أحدهم ، فقد فغر أحدهم فاه قائلاً لقد تخلف أبو ذر الغفاري يا رسول الله ، فقال الرسول عليه الصلاة والسلام ، دعوه فإن كان به خير ألحقه الله بكم .
وعلى الجانب الآخر ، كان أبو ذر بالفعل يسير فوق بعيره الهزيل ، وكان أبو ذر يستحثه على المضي قدمًا إلا أنه لم يقدر ، فنزل أبو ذر من فوقه وحمل متاعه فوق ظهره ، واستكمل طريقه سيرًا على الأقدام ، تجاه رسول الله ، حتى يلحق به.
وكان الطريق موحشًا بشدة ولكن أبو ذر تذكّر الأيام الخوالي ، عندما بدأ حياته قاطعًا للطريق حيث كانت مهنة ورثها عن قبيلته ، ولكنه لم يكن يقطع الطريق ليسرق ، بل كانت قبيلته تقع في طريق التجارة بمنتصف شبه الجزيرة العربية ، فكانوا يستوقفون العابرون ليدفعوا ثمن مرورهم ، بالحصول على بعض البضائع آنذاك.
وفي إحدى المرات ، كان أحد التجار من قريش يستعد لدفع رسوم المرور ، فسأله أبو ذر عن أحوال مكة فقال له الرجل أن هناك توترًا يسود بالأجواء نظرًا لظهور نبي بها ، يدع الناس لدين جديد ، فقام أبو ذر بإرسال أحد أتباعه إلى مكة ليأتي له بمعلومات وافية عن هذا النبي والدين.
وكان أبو ذر له ثلاثة أعوان لا يصلي سوى بجملة واحدة وهي لا إله إلا الله ، وبشأن تلك الجملة سأله فيما بعد أبو بكر الصديق لمن كان يوجه صلاته ، فقال له أبا ذر أنه كان يتوجه حيث يوجهه الله عزوجل.
عندما عاد شقيق أبو ذر من مكة سأله عن تفاصيل الدين الجديد ، فحدثه شقيقه عن رسول الله الكريم ، واصفًا إياه بدقة حتى ارتسمت صورته في مخيلة أبو ذر ، وبشأن الدين أفاده أخوه بأنه يدع للخير ، وينهي عن الشر.
ذهب أبو ذر إلى مكة ، ولكنه خشي أن يسأل عنه مباشرة فيصيبه ما حل بمن أسلموا قبله ، فظل يحوم حول مكة ينتظر أن يجد شخص هزيل لا يقوى على إيذائه حتى يسأله بشأن محمد ودينه ، وكان هذا الرجل هو الفخ الذي وضعته قريش لمن يريد أن ينضم لدين محمد ، ومجرد أن سأله أبو ذر عن الصابئ الذين يتحدثون عنه ، حتى صاح الرجل بكلمة السر فانضم من حوله جميعًا وأبرحوه ضربًا ، حتى كادوا يقتلونه .
انصرف أبو ذر وذهب إلى جوار بئر زمزم واختبأ بها ، وظل قرابة الشهر لا يتناول طعامًا قط ، سوى الماء الذي يخرج من زمزم ، حتى قال أنه قد سمن وتدلى بطنه بعد أن شرب منها طيلة الشهر.
أثناء طريقه إلى تبوك ، شعر أبو ذر بالعطش الشديد فتذكر زمزم وماؤها ، فنسي العطش حتى ارتوى ، وذهب للاختباء تحت تل صغير يقيه شر قيظ الشمس وحرها ، حتى يستطيع أن يلحق بالرسول الكريم في تبوك .
أثناء جلوسه تذكّر أبو ذر ، كيف مر به علي بن أبي طالب وقد استشعر أنه يرغب بالانضمام لهم ، فسأله عن حاجته فروى له أبو ذر ما حدث بعد أن استأمنه على سره ، فقال له على أن يتبعه ، وإذا ما وجد شيئًا من فخاخ أهل قريش لابد أن يفترقا ، وبالفعل سار أبو ذر خلفه ، وكلن فشلت خطتهما ، فاختبأ أبو ذر ثانية.
توقف النبي مع المسلمون للاستراحة قليلاً ، ولم يخف الجميع قلقهم بشأن أبو ذر فهم يعرفون كيف أن هذا الرجل لا يخش في الحق لومة لائم ، فكيف يتغيب عن معركة تبوك هكذا!
لمح أبو ذر رجلان يهبطان من الجبل تجاه الحجر الأسود ، ووقفا يصليان فتأملهما قليلاً حتى أدرك أنه يقف أمام رسول الله كما وصفه شقيقه ، فاقترب منهما وسلم على النبي وعرف منه أنه الرسول بالفعل ، فروى ما حدث له وأشهر إسلامه ، وضايقه أبو بكر ليطعمه ، ونصحه النبي بأن يكتم إيمانه وإسلامه حتى لا يؤذه أهل قريش.
ولكن أبو ذر مجرد أن خرج من صحن الرسول الكريم ، حتى صاح في منتصف الطريق بالشهادتين ، فهجم عليه أهل قريش وابرحوه ضربًا ، إلى أن ظهر أحدهم فعرفه فقال لهم أنهم هكذا سوف يفقدون تجارتهم لأنه من قبيلة غفار التي تقطع الطريق ، فخافوا جميعًا من انتقام قبيلة أبو ذر فتركوه.
وهكذا كان لقطع الطريق فائدتين لأبي ذر ، أول مرة عندما علم بدين الله ، والثانية عندما خلّصه الله من بين أيديهم نسبة إلى قبيلته وطبيعة عملها ، ما أن رأى المسلمون رجلاً يأتيهم سيرًا على قديمه حتى أخبروا النبي ، فدعا النبي أن يكون هذا الرجل هو أبو ذر ، وما أن اقترب حتى اتضحت ملامحه وهلل المسلمون فرحًا أنه هو ، فحمد النبي الكريم ربه ، وقال عجبًا لأبي ذر ، يعيش وحد ، ويموت وحده ، ويبعث وحده.
كان أبو ذر زاهدًا في الدنيا ومتاعها ، ولكنه كان يرغب دائمًا في الحصول على حقوق الفقراء ، وكان عثمان بن عفان يتولى الخلافة آنذاك ، وطلب منه بعض الأثرياء من المسلين أن يتحدث إلى أب ذر ، حتى يتوقف عن إشعال الفقراء ضدهم.
طلب عثمان رؤية أبي ذر ، فذهب له الأخير وقال أنه يعمل كما أمره النبي وأنه سوف يسمع ويطيع ، فطلب منه عثمان أن يظل في كنفه على أن يجزل له العطاء ، إلا أن أبا ذر آثر أن يرحل بعيدًا إلى شمال العراق ، فلبى له عثمان طلبه فرحل.
بقيت إلى جوار أبا ذر زوجته العجوز ، بعد أن ماتت ابنته ثم لحقها ابنه ، وكان يلفظ أنفاسه الأخيرة إلى جوار دموع زوجته فسألها ما يبكيها ، قالت أنهما وحيدان وليس لديهما حتى من الثياب ما يمكن أن تكفّنه به ، فقال لها أبو ذر إذا مت فغسلاني وكفناني وضعاني على الطريق ، فإذا مر بكما أول ركب فقولا له هذا أبو ذر.
وبالفعل مات أبو ذر ومر عبد الله بن مسعود به ، وسأل من هذا فقيل له هذا أبو ذر ، فقام عبد الله بتغسيله وتكفينه ، وصل عليه ، وبكى قائلاً صدقت يا رسول الله ، رحل أبو ذر وحده ، وعاش وحده ومات وحده.