روي النبي صلّ الله عليه وسلم ، هذه القصة ليثبت قومه على دينهم ، ففيها من العبر ما يقوي العزائم ، ويثبت القلوب ، وهي لغلام ذكي استطاع بفطنته أن يتغلب على ملك أدعى الإلهية بغير حق ؛ فبفضله أمنت القرية كلها بالله عزوجل ، وتركت عبادة الملك الظالم الذي سولت له نفسه أنه القوي الذي لا يقهر .
فقد أراد هذا الملك من الغلام أن يتعلم أصول السحر ، لما لمسه فيه من براعة وفطنة ؛ وذلك لكي يحمي عرشه كما كان يفعل غيره ، ولكن الله لا يرضي بغير الحق ، فانقلب السحر على الساحر ، وهدى الله الغلام لدربه ، وألهمه الصبر على البلاء حتى آمنت القرية بمن فيها برب الغلام ، الذي ضرب مثالا للبطولة في أسمى معانيها .
بداية القصة :
كان هناك ملك ظالم لديه ساحر يفعل له بعض الأعمال في الخفاء ، وهكذا يتوهم الناس بقدرة الملك وعظمته ، وأنه إلههم الواحد الأحد ، الذي يمتلك من القوة والهيمنة ما لا يمتلكه غيره ، وما كان كل ذلك إلا بعض الخدع السحرية التي يقوم بها ساحر الملك ؛ فيعتقد الناس في ملكهم أنه الإله ذو المعجزات حاكم الأرض ومن فيها ، وكانوا يخضعون له خوفًا من استبداده وظلمه ، وقدرته التي اعتقدوها .
لما أدرك الساحر أن موعده قد اقترب ، وأن المنية على أبوابه ، طلب من الملك أن يحضر له صبى فطن ؛ لكي يعلمه السحر من بعده ، فاختار له الملك غلام ذكي يسبق أقرانه ، نبيه ، ولديه من الكياسة والفطنة ما يؤهله لذلك العمل ، وأمره أن يتعلم السحر من الساحر ، ويتقن أساليبه .
رؤية الراهب :
فذهب الغلام إلى معلمه الجديد ؛ ليتعلم أمور السحر كما أمره الملك ، وأثناء عودته إلى بيته ، كان يرى رجلاً غريب الأطوار يجلس في صومعته يتمتم ببعض الكلمات ، فجذب ذلك انتباه الغلام ، فأخذه الفضول وذهب إلى منزل الرجل ، واستأذن في الدخول .
وسأله من أنت أيها الرجل؟ ، فرد عليه الجالس قائلًا : أنا راهب ، فسأله ماذا يعنى راهب ؟ فقال له : راهب أتعبد لله الخالق ، فتساءل الغلام قائلًا : هل تقصد الملك ؟ قال الراهب لا ، أنا أتعبد ربى وربك ورب الملك ، فاسترعى الكلام انتباه الغلام وأخذ ينصت للراهب ويشرد في كلامه .
حيرة الغلام بين السحر والإيمان :
كان الغلام من داخله يشعر أنه بحاجة لمعرفة المزيد عن ذلك الدين الجديد ، وعن الإله الذي يتحدث عنه الراهب ، فقرر الذهاب إلى صومعة الراهب ، كل يوم قبل أن يذهب إلى بيت الساحر ، وبعد عودته ، فكان يتأخر على الساحر فيسأله عن السبب ولا يجد منه جواب ؛ فيضربه ، وكذلك أهله حينما كان يتأخر عليهم .
فشكا الغلام إلى الراهب حاله وأخبره بما يفعله به الساحر الشرير ؛ حيث كان رجلًا بلا رحمة ولا شفقة ، فقال له الراهب : إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي ، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر ، وهكذا استطاع أن يذهب للراهب دون أن يطوله العقاب .
وفي مرة من المرات وأثناء عودة الغلام إلى بيته رأى دابة عظيمة تسد على الناس طريقهم ، فخطرت له فكرة يعرف بها من هو الإله الحق ؟ هل هو رب الساحر أم رب الراهب ؟ وأخذ حجرًا بيده و ألقاه وهو يقول : اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فأقتل هذه الدابة ؛ حتى يمضى الناس في طريقهم .
موت الدابة وإيمان الغلام :
فاستجاب الله دعوى الغلام ، وأزاح الحجر الدابة عن الطريق وماتت باسم رب الغلام ، وبعد ذلك ذهب الغلام إلى الراهب ، وقص عليه القصة كاملة دون زيادة أو نقصان ؛ فصار الراهب في عجب من أمره ، ولكنه تدبير الله ، وبعدها شعر الراهب بالقلق على الغلام ، فأخبره أن الله مبتليه ، ولكنه طلب منه إذا ابتلي ألا يدل عليه حتى لا يبطش به الملك .
حرص الغلام على كتم سر الراهب ، إلى أن حان الوقت الذي أعده الله ليزيح الغشاوة عن قلوب القرية الغافلة ، ولما كان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله ، سمع به نديم الملك وبكراماته التي كان يتحاكى بها العامة .
شفاء نديم الملك على يد الغلام :
وكان هذا النديم أعمى ، فجمع هدايا كثيرة من الذهب والفضة ، وتوجه بها إلى الغلام وقال له : أعطيك كل هذه الهدايا إن شفيتني ، فأجاب الغلام : أنا لا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله تعالى ، فإن آمنت بالله دعوت الله ؛ فشفاك ، فآمن جليس الملك ، فشفاه الله .
ولما ذهب جليس الملك إلى المجلس ، وقعد بجوار الملك كما كان يقعد قبل أن يفقد بصره ، فقال له الملك : من ردّ عليك بصرك ؟ ، فأجاب الجليس بثقة المؤمن : ربّي ، فغضب الملك وقال : وهل لك ربّ غيري؟ ، فأجاب المؤمن دون تردد : ربّي وربّك الله .
الملك ينزل العذاب بالراهب والنديم :
فثار الملك ، وأمر بتعذيبه فلم يزالوا يعذّبونه حتى دلّ على الغلام ، فأمر الملك بإحضار الغلام ، ثم قال له : يا بني ، لقد بلغت من السحر مبلغاً عظيماً ، حتى أصبحت تبرئ الأكمه والأبرص وتفعل ، فقال الغلام : إني لا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله تعالى .
فأمر الملك بتعذيبه فعذّبوه حتى دلّ على الراهب ، فأُحضر الراهب وقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى الراهب ذلك ، وجيء بمنشار ، ووضع على مفرق رأسه ، ثم نُشِرَ فوقع نصفين ، ثم أحضر نديم الملك من بعده ، وقيل له ما قيل للراهب ولكنه أبى الرجوع عن دين الله عز وجل ، فنشروه هو الأخر .
ثبات الغلام على دين الله ونجاته من الملك :
ثم جيء بعد ذلك بالغلام وقيل له : ارجع عن دينك ، فأبى الغلام ، فأمر الملك جنوده بأخذ الغلام إلى قمة الجبل ، فإما يعود لعبادة الملك أو أن يطرحوه من أعلى قمة الجبل ، فأخذوه ، وصعدوا به الجبل ، فدعى الفتى ربه : اللهم اكفنيهم بما شئت ، فاهتزّ الجبل وسقط الجنود من عليه ، ورجع الغلام يمشي إلى الملك .
فتعجب الملك وقال له : أين من كان معك ؟ فأجاب : كفانيهم الله تعالى ، فأمر الملك جنوده بحمل الغلام في سفينة ، والذهاب به لوسط البحر ، ثم تخييره هناك بالرجوع عن دينه أو إلقاءه دون شفقة أو رحمة ، فذهبوا به ، فدعا الغلام ربه : اللهم اكفينهم بما شئت ، فانقلبت بهم السفينة وغرق من كان عليها إلا الغلام .
ثم رجع إلى الملك ، فسأله الملك باستغراب : أين من كان معك ؟ فأجاب الغلام المتوكل على الله : كفانيهم الله تعالى ، ثم قال للملك : إنك لن تستطيع قتلي حتى تفعل ما آمرك به ، فقال الملك : وما هو ذلك ؟ ، فقال الفتى المؤمن : أن تجمع الناس كلها في مكان واحد ، وتصلبني على جذع شجرة ، ثم تأخذ سهماً من كنانتي ، وتضع السهم في القوس ، وتقول بسم الله ربّ الغلام ثم ترمني به ، فإن فعلت ذلك قتلتني .
بسم الله يموت الغلام :
أمر الملك أن يجتمع الناس في مكان وأحد من رجال ونساء وصغار ، وصلب الغلام على الجذع ، ثم أخذ سهماً من كنانته كما دله الغلام ، ووضع السهم في القوس ، وقال : باسم الله ربّ الغلام ، ثم رماه ، فأصاب السهم الغلام ، وقتله على الفور .
فأمن الناس كلهم برب الغلام ، واكتشفوا أن قدرة الملك ما هي إلا أكذوبة صنعها ساحر شرير ، وملك مستبد ، فأمر الملك بحفر شقّ في الأرض ، وإشعال النار فيه ، ثم أمر جنوده بتخيير الناس ، إما الرجوع عن دين الغلام ، أو إلقائهم في النار ، ولكن هيهات أن يفلح الظالمون .
حفر الأخدود وثبات المؤمنين على دين الله :
فعل الجنود ما أمرهم به الملك ، وبدؤوا بإلقاء الجموع فى الحفرة ، والكل يردد بسم رب الغلام ، حتى جاء دور امرأة معها طفل صغير ، أصاب الضعف قلبها خوفًا على صغيرها ؛ فألهم الله الصبي أن يقول لها : يا أمّاه اصبري فإنك على الحق ، فقذفت بنفسها وبصبيها في النار ، وامتلأ الأخدود العظيم بكل المؤمنين من القرية ، ليضحوا بأنفسهم في سبيل الله ، ويصبحوا في جنته التي وعدهم إياه يوم الحشر العظيم .
قال الله تعالى في ذكرهم قرآن يتلى إلى يوم الدين في سورة البروج {وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ قُتِلَ أَصْحَابُ الأُخْدُودِ النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } الآيات من 1-9