بعض الأمور قد لا يصدقها عقل الإنسان سوى بعد أن يقع فيها بنفسه ، فيصدقها بل ويقسم عليها بأغلظ الأيمان. ولعل ما هو متعلق بالعالم الآخر والجان ، هو أمر فريد ونكاد نرى بعض السحرة والمشعوذون ، يحاولون التواصل مع هذا العالم ، منهم من يفلح لملكة أو لسبب ما ، والبعض الآخر ما هو إلا دجال ، يريد أن يوحي لنا بقدراته الفريدة على لتواصل معهم ، ولكن دون جدوى .
يقول الراوي وهو شاب ثلاثيني ، أنا أدعى محمد شاب في العقد الثالث من العمر ، من أسرة فقيرة وقد أتيت من الريف إلى المدينة باحثًا عن عمل ، يتلاءم مع مؤهلي العلمي المتوسط ، وبالفعل رزقني الله عملاً بإحدى المدن حديثة الإنشاء ، وحظيت أيضًا بغرفة فوق أحد أسطح المنازل في منطقة جديدة نوعًا ما ، ولكن الغرفة كفيلة بتحسين مزاجي ، وأرى أنها تحتويني بالشكل الأنسب .
كنت أستيقظ يوميًا في السابعة صباحًا لأذهب إلى عملي ، ولكن بعد فترة تم تقديم الموعد لأستيقظ في السادسة صباحًا ، الأمر مرهق قليلاً ولكني كنت أعتمد على طقوس يومية تزيل هذا الملل ، فكنت أصنع لنفسي كوبًا من الشاي الساخن وأذهب لأتناوله في الخارج أمام غرفتي ، فأنا أسكن فوق سطح المنزل ، وأجلس على الطاولة الخشبية لأتناول فطوري قبل أن أذهب للعمل .
طقس جميل ومنعش وكنت أتسلى برؤية العقارات من حولي ، العديد منها جديدة والبعض تحت الإنشاء ، فالمنطقة مازالت بكرًا ، كنت أدور بعيناي في المكان ، حتى لمحت شيئًا أثار انتباهي ، حيث سمعت صوت شيء ارتطم بنافذة أحد الطوابق ، بالعقار القابع أمامي .
انتبهت لأرى غرابًا ، ينطلق بعيدًا ثم يعود ليلقي بنفسه على النافذة ! اندهشت لماذا يفعل لغراب هذا الأمر ؟؟ لم يدر الأمر بخلدي كثيرًا حتى تكرر الفعل مرة أخرى ، وبين دهشتي لم أدر أن الوقت قد مر لبضع دقائق ، حتى شاهدت امرأة أربعينية فتحت النافذة وصاحت بالغراب أن ينصرف ، مشيرة له بيديها ثم دخلت إلى منزلها مرة أخرى ، والعجيب أن الغراب قد انصاع لأمرها وتوقف عن الارتطام بالنافذة وقبع جالسًا أمام نافذتها !
تكرر الأمر عدة أيام ، وكنت أخرج يوميًا لأشاهد الأمر قبل أن أذهب لعملي ، فجأة جال في خاطري أن أسأل زميل لي يعرف في تلك الأمور الماورائية ، ذهبت إلى عملي وقابلت زميلي ، نحيل الجسد جاحظ العينان ، وأسمر البشرة .
كان زميلي هذا طيب القلب ولكن كنت اشعر دومًا بأننا لسنا وحدنا ، إذا ما التقيته في أي وقت ، وظل هذا الشعور يراودني بشكل دائم معه ، ولكني قابلته ورويت له ما رأيت ، فجحظت عيناه أكثر من الطبيعي ، ثم وجدته يتلفت يمينًا ويسارًا وقال لي هي ساحرة ، قلت له نعم ؟ قال لي هي ساحرة ولربما هذا الغراب جان عاشق لها ، وهي قد سخرته لخدمتها ، فقلت ساخرًا كانت تستطيع أن تضبط منبه الهاتف ، بدلاً من تسخير غرابًا لخدمتها ، فقال لي زميلي لم سألتني إن كنت لاتؤمن بهذا العالم ، فأجبته خجلاً أنني بالفعل أردت المعرفة ، ولكنه قاطعني أنه يريد أن يبيت لدي الليلة لمعرفة الحقيقة .
كانت ليلة من أشد الليالي سوادًا ، فأنا لم أكد أنم بها لحظة ، حيث ظل زميلي يتقلب يمينًا ويسارًا ويحدث كائنات غير موجودة ، مما زادني رعبًا فتارة يضحك لهم ، وتارة يحدثهم وأخرى يتجهم ويبدأ في همهمة غير مفهومة .
أتت الساعة الخامسة ، فجلست إلى جوار زميلي نتأمل النافذة أمامنا ، وقال لي أنه من لمحتمل ان يكون هذا الغراب جنيّ عاشق ، ومن يدري ربما تسحرك أنت أيضًا تلك المرأة لتأتي لها بما تريد من السوق ، جلست أتأمل زميلي ثم ضحكت بشدة إلى أن جاء الغراب ، ظل ينظر إلى النافذة قليلاً في حيرة ثم التفت ينظر لنا ، ثم طار في الهواء مسرعًا !
اتجهنا نحو السور أنا وزميلي ، وظللنا نراقب الأمر حتى فتح النافذة رجل ما ، أربعيني الهيئة ثم تلفت حوله فرآنا فألقى علينا التحية ، وقال لنا هذا الغراب الغبي يأتي كل يوم إلى هنا ، ليهاجم انعاكس وجهه في زجاج النافذة ، ويوقظنا مبكرًا ولكننا –قالها ضاحكًا- قد بدلنا هذا الزجاج بإطار خشبي ، ولعل الغراب لن يأتي إلى هنا ثانية ليرى انعكاس صورته .
اغتظت بشدة من زميلي وظللت أركله بقدماي ، بعدما صدقت أن في الأمر خدعة ما وسحر ، ولكن من المثير للدهشة هو أنني أذهب للسوق يوميًا وآتي بعدة أشياء غريبة ، ثم أجد نفسي متجهًا نحو العقار المقابل لنا ، ونحو الشقة المقابلة لي بالتحديد ، لأعطي السيدة التي كانت تخرج من النافذة ما جلبته من فاكهة وخضروات ، وأنصرف كالأبله .