منذ قديم الأزل قامت على ضفاف نهري دجلة والفرات أو ما عرف قديمًا باسم بلاد ما بين النهرين حضارات كبيرة مزدهرة، ومن بين تلك الحضارات، الحضارة البابلية التي قامت على نهر الفرات قبل أكثر من 4000 عام انطلاقًا من مدينة بابل والتي بدأت كميناء صغير على نهر الفرات، ثم ازدهرت لتصبح واحدة من أكبر مدن العالم القديم.
تأسيس مدينة بابل
وقد تأسست مدينة بابل تقريبًا عام 2300 قبل الميلاد على بعد حوالي 50 ميل جنوب بغداد الحالية، وكان سكانها من الأكاديين، الذين عاشوا في جنوب بلاد ما بين النهرين قديمًا، وكانت لغة أهلها هي الأكادية، وكلمة بابل في الأكادية تعني بوابة الإله، ويعتقد أن البابليين استخدموا اللغة السريانية الآشورية في وقت لاحق كلغة رسمية.
قوانين حمورابي
وفي عام 1792 قبل الميلاد تقريبًا حكم بابل ملك قوي يسمى حمورابي وهو سادس ملك حكم بابل، وتنحدر عائلته من العموريين، وهي قبيلة شبه بدوية عاشت في غرب سوريا، ويعكس اسمه مزيجًا من الثقافات حيث يتكون مقطع اسمه الأول من كلمة ” حمو ” والتي تعني “العائلة” في اللغة العمورية ، أما المقطع الثاني رابي فتعني “عظيم” في اللغة الأكادية.
وقد استطاع حمورابي أن يغزو العديد من المدن المجاورة، الموجودة في جنوب ووسط بلاد ما بين النهرين، وأطاح بممالك آشور ووضعها تحت حكم بابلي موحد ليكون إمبراطورية بابل.
وقد كان من أهم انجازات حمورابي إنشاء ما يعرف باسم قوانين حمورابي أو شريعة حمورابي، وهي أقدم القوانين البشرية المكتوبة وأكثرها تكاملًا، وقد تكونت قوانين حمورابي من 282 قاعدة، تضع معايير للعدالة وكان بعضها يشمل العديد من العقوبات القاسية والتي كانت تستلزم في بعض الأوقات مثل قطع لسان المذنب أو صدره أو عيه أو أذنه.
وقد وضعت جميع قوانين حمورابي في صيغة لو- إذن على سبيل المثال ” لو سرق الرجل ثورًا إذن عليه دفع 30 ضعف قيمته”.
نبوخذ نصر الأول
لكن بعد وفاة حمورابي عادت بابل مملكة صغيرة كما كانت، واستمرت كذلك لعدة قرون، حتى ظهرت سلالة جديدة من بابل أعادت للمدينة قوتها، وكان أبرز ملوكها هو نبوخذ نصر الأول.
وكان نبوخذ نصر الأول ينتمي لسلالة تسمى ايسن الثانية، وهي السلالة الرابعة التي حكمت المدينة.
بعد وفاة نبوخذ نصر الأول نشأ صراع على حكم بابل بين الآشوريين والقبائل الآرامية والكلدانية، وفي معظم الأوقات سيطر الحكام الآشوريين على المدينة، وعينوا ملوكًا تابعين لهم لحكم المدينة.
وكان أخر الملوك الآشوريين الذين حكموا بابل الملك آشور بانيبال، والذي دخل في حرب مع أخيه والذي كان يحكم بابل كتابع لأخيه، وأدى هذا الصراع لتدمير المدينة.
الإمبراطورية البابلية الجديدة
وبعد وفاة آشور بانيبال سيطر الزعيم الكلداني نبوبولاسر على المدينة وأعاد بنائها، وخلال الفترة تلك الفترة بدأت بابل تشهد تقدم ونهضة كبيرة في مجالات العلوم والفنون والعمارة.
وكان الحاكم البابلي الجديد تحركه ثقافة إعادة إحياء تراث المدينة القديم، وقد اتبع سياسة ثقافية تقليدية قائمة على الثقافة السومرية الأكادية القديمة.
وقام بترميم الأعمال الفنية القديمة من الفترة البابلية القديمة والحفاظ عليها، وعامل تلك الآثار باحترام كاد يصل إلى درجة التبجيل الديني.
وقد بلغ الفن والعمارة البابلية الجديدة أوجها في عهد الملك نبوخذ نصر الثاني والمعروف أيضًا باسم بخترشاه، الذي حكم من 604-562 قبل الميلاد وكان راعيًا عظيمًا للتنمية الحضرية وعزم على إعادة بناء جميع مدن بابل لتعكس مجدها السابق.
ومع ذلك فإن الكتب المقدسة العبرية والمسيحية تذكر أن نبوخذ نصر كان ملك آسر، ويرتبط اسمه بقصة السبي البابلي حيث غزا بيت المقدس، وآسر عدد كبير من يهود المدينة، ونقلهم إلى بابل، ومازالت تلك الفترة محل دراسة من علماء التاريخ حتى اليوم، أيضًا تذكر بعض المصادر الدينية اليهودية والمسيحية أن نبوخذ نصر حاول بناء برج عملاق يسمى برج بابل ليرى الله عز وجل، إلا أن الله عز وجل دمر البرج.
وخلال عهد نبوخذ نصر تم بناء ثلاثة حلقات من الجدران حول المدينة، يبلغ ارتفاعها حوالي 40 قدم على بقايل سور قديم تم بناؤه في عهد حمورابي، ويذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت أن تلك الجدران كانت كثيفة لدرجة جعلتهم يقيموا سباقات عربات فوقها، وأيضًا مما ذكره هيرودوت أن مساحة المدينة التي كانت داخل الأسوار قد بلغت 200 ميل مربع.
وأيضًا تذكر بعض المصادر أن نبوخذ نصر الثاني قد بنى ثلاثة قصور كبيرة وقد زين تلك القصور بالبلاط المزجج باللونين الأصفر والأزرق، وبنى مجموعة من الأضرحة، أيضًا فقد أنشأ نبوخذ نصر الثاني حدائق بابل المعلقة.
وبالرغم من عدم وجود دليل أثري قاطع على موقع الحدائق إلا أن الكتاب اليونانيين والرومان قد وصفوها بدقة في كتاباتهم، حيث كانت عبارة عن متاهة ضخمة من الأشجار المزروعة على مدرج، تتخللها شجيرات وزهور وبحيرات صناعية وقد اعتبروها واحدة من عجائب الدنيا السبعة القديمة، ويرجح المؤرخون القدماء أن تلك الحدائق قد تم تدميرها في القرن الأول الميلادي تقريبًا.
ومن بين الآثار الباقية والتي تم إنشاؤها أيضًا في عهد نبوخذ نصر الثاني البوابة الثامنة لمدينة بابل والتي عرفت باسم بوابة عشتار، ويعتقد أن تلك البوابة تم بنائها عام 575 قبل الميلاد تقريبًا.
وبالرغم من الازدهار الذي وصلت إليه المملكة البابلية الجديدة، إلا أنها كانت مثل المملكة البابلية القديمة قصيرة العمر، فبعد أقل من قرن واحد فقط على تأسيسها، تم غزو مدينة بابل بواسطة إمبراطور فارسي يسمى كورش العظيم واستولى عليها من الملك نابونيدوس والذي كان أخر خلفاء نبوخذ نصر الثاني في حكم بابل.
وبعد تلك الفترة وتقريبًا في عام 539 قبل الميلاد، لم تعد بابل دولة مستقلة مرة أخرى، فبعد الفرس انتقلت لحكم السلوقيون وقد حكمها الإسكندر الأكبر المقدوني عام 331 قبل الميلاد، وقد خطط الإسكندر لجعل بابل عاصمة لدولته، لكنه توفي قبل أن يحقق ذلك، وفي النهاية تخلى السلوقيون عن حكم مدينة بابل وانتهت تلك الحضارة القديمة، والتي اعتبرها المؤرخون واحدة من أعظم الإمبراطوريات في التاريخ.