في ذلك المساء ، حملت جميع حقائبي المعّدة للانتقال معي ، إلى مرحلة جديدة من الحياة ، وركبت السيارة ، برفقة أبي وأمي ، متجهين نحو محطة الحافلات المركزية في العفولة ، لم يتحدثا معي طيلة الطريق ، ولا أنا معهما ، أفارقهما لأول مرة !!

المحطة:
عندما وصلنا إلى المحطة ، أنزل أبي الحقائب من الصندوق الخلفي للسيارة ، وضع حقيبة التعليم على ظهره ، وبدأ يجر حقيبة السفر الكبيرة ، وفي يده الأخرى حقيبة منفوخة ، لا أعلم ماذا وضعت فيها أمي ، حتى كادت تتمزق .

لا داعي يابا ، سوف أتدبر أمري لوحدي ، قلتها له وحملت الحقائب عنه ، وبدأت بالسير بخطى سريعة أكثر من المعتاد ، متجاهلة : لكن يابا !! التي أطلقها وسكت بعدها ، سمعت باب السيارة يغلق ، وهديرها وهي تنطلق حين اختفيت في طابور التفتيش الأمني .

الحافلة:
بدأت البحث عن الرصيف المطلوب للحافلة ، التي ستقلني إلى القدس ، حاولت جاهدة حمل الحقائب الثقيلة ، في كل مرة كنت أسأل عن الرصيف ، كان المارة يجيبونني بإيماءات وإشارات لم أكن قادرة على رؤيتها ، وآخرون كانوا يجيبون عن شفقة وعطف لا داعي لهما ، وصلت رصيف الحافلة التي ستقلني إلى المرحلة الجديدة في الحياة ، بعد أن ارتطمت بعدة حواجز حديدية وبشر وترددات .

صعدت إلى الحافلة ومعي حقائبي ، لأتابع الاصطدام بالناس والأشياء ، كان من الصعب عليّ أن أضع أغراضي في الصندوق المعد بالحقائب أسفل الحافلة ، لخشيتي من عدم تمكني من تمييزها ، بعد أن تختلط بحقائب المسافرين الآخرين ، الذاهبين في الحافلة معي إلى أحلامهم ، ومعاركهم ومحطاتهم القادمة .

البطاقة:
وقفت عند السائق ، أين البطاقة ؟ أي واحدة من بين كل تلك البطاقات ؟ كيف سأجدها يا الله ؟ صرخت إحدي المسافرات الواقفات ورائي بالدور : هيا لماذا كل هذا الوقت ؟ جلست على كرسي قريب من السائق ، ووضعت أغراضي بجانبي بحثت عن البطاقة ، وكان رنين الرسائل في هاتفي النقال لا يسكت ، تجاهلته حتى وجدت البطاقة أخيرًا ، قدمتها للسائق بابتسامة الراحة .

الطريق والرحلة:
أجبت على رسائل أهلي القلقة : أنا في الطريق إلى القدس ، كل شيء على ما يرام ، كانت أمامي ساعتان من السفر والتفكير ، الحافلة معتمة جداً ،والأصوات والروائح غريبة ، وأنا لوحدي ، مع حقائبي التي تتكوم إلى جانبي و لا أعلم كل ما فيها .

في طريقي إلى المجهول ، كيف سأتدبر أمري ؟ كيف سأصل إلى قاعة المحاضرات ؟ كيف سأعيش في بلد بعيداً عن أهلي ؟ وأنا التي لا تولي اهتماماً بأي شيء ، لأنهم يحيطونني بحب وحنان ، كيف أستطيع أن أستقل عنهم وهم يعينوني في الأكل والشرب ؟ من سيمسك بيدي لأجتاز الشارع بأمان ؟ هل تسرعت في أخذ قرار الاستقلال هذا ؟

الوصول إلى القدس :
أعلن السائق وصولنا إلى المحطة المركزية في القدس ، موقفاً أسئلتي مع فرامل الحافلة ، اتصلت بصديقتي لأعلمها بأني وصلت لترافقني إلى السكن ، بما أنني لا أعرف شيئًا عن هذا المكان الغريب ، فاجأتني الصديقة عندما قالت أنها تنتظرني بالمحطة وإنها ستحاول الاستدلال عليّ حين أنزل من الحافلة ، هل تستطيع فعلا أن ترشدني ، وهي أيضاً مثلي لا ترى ؟ هل أستطيع أنا أيضاً في يوماً ما أن أرشد أحدهم إلى طريق جديد ؟

الصديقة:
وجدتها ، أو هي التي وجدتني ، لا أدري ، المهم في الأمر أننا التقينا أخيراً ، تعانقنا ، شعرت باستغراب لكل ما يدور حولي وبداخلي ، فقالت لي : ستعتادين أنت أيضًا ، ستعتادين ، هل أنت متأكدة ؟ سألتها وأنا أتمسك بالحقائب كأنها ستهرب مني ،أجابت بثقة : بالطبع ، وأضافت سنكون سوياً ، وسيكون معنا أشخاص آخرون ، سوف تتعرفين عليهم ، أعطني حقيبة لأساعدك على حملها ، فأعطيتها تلك المنفوخة ، التي لا أعلم ماذا كومت أمي فيها ؟!

السكن الطلابي:
وصلنا إلى السكن الطلابي في وقت متأخر من الليل،وضعت الحقائب على الأرض ، سأقوم بترتيبها غداً إن قررت البقاء في هذه المدينة البعيدة والباردة أصلاً ، استلقيت منهكة على السرير ، ليس مريحاً كسرير البيت ، أجبت على الرسائل الجديدة القلقة من أهلى : وصلت القدس متعبة سأنام .

كانت صديقتي مازالت تتحدث عن الحياة بالقدس ، وأنا أصطنع الاصغاء والاقتناع ، لكن ما كنت أفكر فيه حقاً هو أنه كان عليّ ، أن أختار مكان لبيتي أتعلم فيه ، فالتعلم أصلاً في مثل حالتي غير مضمون ، فأصحاب البصر لا يجدون عملاً بعد دراستهم فما بالك بمن مثلي لا ترى ؟

اليوم التالي بالقدس :
عندما استيقظت كانت صديقتي قد أنهت تجهيز نفسها ، لكنها تمشي على مهل لكي لا تزعجني ، هيا استيقظي ، حتى لا تتأخرين عن المحاضرة ، أخرجت من الحقيبة ملابس دافئة وجميلة ، لأنني عرفت أنّ القدس تقابل القادمين إليها ببرد قارص وتوتر شديد وحب انتقائي .

الحرم الجامعي :
الحرم الجامعي قريب من المساكن ، مشت معي صديقتي حتى بناية الكلية ، دخلت المحاضرة الأولى ، كلهم جدد مثلي وغرباء ، و المحاضرون منشغلون بالحديث عن برنامج المساقات والمصطلحات الطويلة صعبة اللفظ من أول مرة .

عاودت اللقاء بصديقتي في محاضرة جمعتنا بعد الظهر ، في مساق فلسفي عن ، الحياة  والموت ، كنت متعبة من سفر الأمس وجائعة من كثرة الكلام الغريب ، كانت المحاضرة ممتعة فعلا إلا أنني لم أعد أقدر على تحمل التعب ، فاقترحت عليها أن نخرج ، وافقتني إلا أننا أخطأنا باب الخروج ، ودخلنا غرفة أخرى !

تحسسنا ما بداخها وإذ بنا قد دخلنا غرفة المكيّف ، بعد أن استوعبنا الأمر ، ضحكنا بصوتٍ عالٍ ، علقنا دون أن نعرف ماذا علينا أن نفعل في هذا الموقف المحرج ، فالقاعة مليئة بالطلاب والمحاضر حازم وجدي ، خرجت لوحدي لأتمكن من معرفة باب الخروج ، ثم عدت إلى غرفة المكيف واصطحبت صديقتي إلى خارج القاعة ، تاركين ضحكات زملائنا ، حتى المحاضر لم يتمالك نفسه .

أيام لن تتكرر :
أوجعني بطني من الضحك يومها ، وحين وصلنا إلى الحديقة المخبأة بين البنايات الحجرية ، قالت صديقتي : إنه يوم لن يتكرر ، كانت لهذه الجملة وقع كبير في وجداني ، كل يوم في حياتنا لن يتكرر ، إن قررنا أنه كذلك ، هناك أيام أهم من أيام ، كهذا اليوم الأول في الجامعة ، في القدس ، قد أرتطم وأقع ، قد أضيع المكان ، لكني سأقف وأجد طريقي ، كل يوم هدية لن تتكرر .

أعادني الجوع والتعب للبيت الجديد ، قبل أي شيء ، فتحت الحقائب ، بدأت أرتب ملابسي التي سألبسها في الأيام القادمة ، عارفة إياها من ملمسها ، في خزانتي الجديدة ، تناولت الصحون والملاعق والشوك ، التي سآكل بها بعد أيام التعليم الطويلة ، وجدت غطاء وسادتي التي ترافقني ، والتي سأشمها كلما أستلقي لأفرغ حقائب أيامي التي لن تتكرر.

By Lars