جلست سيدة ذات وشاح أسود على باب صيدلية المدينة ، وكانت تضع أمامها طبق بلاستيكي به علبة دواء معها ورقة بها وصفة طبية مختومة من طبيب ، خُطت على تلك الورقة كتابات يصعب على غير العارف أن يفك طلاسمها ، ومن مظهرها تبدو المرأة في الأربعين من عمرها ، ولكن لا يبدو عليها السقم .
حين كانت تلك السيدة ترى أحدهم يغادر الصيدلية ، كانت ترفع نحوه الطبق البلاستيكي وتطلب منه أن يساعدها في شراء الدواء ، وبعضهم كان يلقي في الصحن بعض المال ثم يمضي الى حال سبيله وآخرون يتجاهلونها ، وكان وشاحنها الأسود يشير لكل من رآها أن زوجها قد توفى وتركها لمعاناة الأيام ، مما كان الأمر الذي يظنه الناس يثير شفقتهم بعض الأحيان.
ذات يوم ونحو الساعة الحادية عشر مساءًا ، توقفت سيارة أمام الصيدلية ونزل منها رجل طويل يدعى مؤمن ، وتقدم مؤمن نحو الصيدلية في عجلة لإحضار دواء قد وصفه الطبيب لولده الذي يعاني من الحمى .
وعلى بُعد خطوات قبل دخوله الصيدلية ، لمح تلك السيدة تجلس على الرصيف تتسول ، دخل مؤمن الصيدلية وقد أحضر له الطبيب كل الأدوية المدونة في تلك الوصفة ، وما إن استدار ليغادر الصيدلية ، حتى وقع بصره مرة أخرى على تلك المرأة ، ولم يكن وجهها غريبًا عنه ، وشيئًا ما استوقفه قليلًا وهو ينظر إليها ثم واصل طريقه إلى سيارته.
في الطريق ظلت صورتها تشغل اهتمامه ، وكأن صوتًا من أعماقه يلح عليه إنه يعرفها ، ولكن لا يدرى كيف ومتى وأين ، وحمل مؤمن الدواء إلى ولده ثم غابت عن تفكيره تلك المرأة التي تتربع على الرصيف .
وكان مؤمن يعمل في شركة توزيع المعجنات ، وكان عمله ذاك يجعله يطوف كل أرجاء المدينة ، ويلتقي مئات الوجوه كل يوم لذلك لا يتذكر أين التقى بوجه تلك السيدة ، وبعد مرور أسبوعين من زيارة الصيدلية ، عاد مرة أخرى لشراء دواء لزوجته .
في مدخل الصيدلية رأى ذات المرأة تجلس كما كانت من قبل ، وما أن رأته حتى حولت وجهها للجهة الأخرى ، وكان ما قامت به مثيرًا للشك لديه ، وعاد يتساءل عن ما إذا كان يعرفها ، ولكنه موقن بأن تلك السيدة تعرفه ، ولكنه لا يعرف لماذا تحاشت النظر إليه .
دفعه الفضول للتحدث معها ، فأخرج من جيبه عدة نقود ، وأنحنى إليها ولكنها ظلت تتفادى نظراته ، ثم فاجئها بقوله لها إنه يعرفها أو رآها من قبل ، لكن أنكرت السيدة معرفتها به وقطعت كل أسئلة وجُهت لها .
فرحل مؤمن وفي تلك الليلة حاول ينبش في ذاكرته لعله يجد أي أثر لتلك السيدة لكنه لم يجد ، وفي اليوم التالي خرج مؤمن للعمل ، وفي منتصف النهار توقف عند أحد المطاعم الشعبية لتناول وجبة الغذاء قبل أن يكمل عمله .
وحين ركن سيارته ووقف ليطلب الطعام فوجئ بامرأة تدعوه بإسمه مؤمن ، نظر للوراء وإذ بها السيدة المتسولة ، فنهض ودعاها للجلوس فجلست ، وأخبرته أنها تعقبته منذ أمس لتوضح له بعض الأمور .
بل وأخبرته انه لم يخطئ حين أخبرها بالأمس أنه يعرفها ، وعادت به إلى 20 عام للوراء ، وذكرته إنها ليلى ابنة الجيران التي صرح لها ذات يوم بأنه يحبها ، وأخبرته إنها ظلت تنتظره بعد أن رحلت أسرته من المكان ، ولما لم يأتي ارتبطت بأخر وتزوجت وأنجبت طفلين .
وحذرته إنها سُتخبر زوجها عن ملاحقة مؤمن لها إن حاول الاقتراب منها أو التدخل في حياتها ، ثم نهضت ورحلت ، جلس مؤمن وقد هيمن على خياله ذكريات مراهقته البعيدة وصور تلك المرأة التي هام بحبها يومًا ما ، وقد أصبحت متسولة الآن فتعهد في نفسه أن لا يبوح لأحد بتلك الحكاية .