قالي لي : اقترب وانظر ، ماذا ترى ؟ اقتربت ونظرت فرأيت لوحة تجريدية رائعة الألوان ، لم أرى تناسق وجمال ألوانها في أي لوحة من لوحات الفنانين التشكيلين العالميين ، الذين رأيت أعمالهم في المعارض ، أو متاحف الفن ، أو في الكتالوجات الملونة التي تصدر مطبوعة عن أعمالهم .
أنا وعالم الأحياء صديقي :
قلت وقد ابتعدت عن الميكروسكوب الذي داعني للنظر من خلاله إلى اللوحه : ألوان رائعة وتناسق بديع ، علق على كلامي مبتسماً : لا توجد أية ألوان في هذه اللوحة الملونة ، حيرني حديثه ، لكنني لم أشكك في صحته ، فهو عالم في الأحياء ، ولابد أنه يعني ما يقوله .
ولما وجدته مستمراً في ابتسامته ، وهو ينظر إليّ في تحدٍ ،حاولت أن أصل نفسي إلى حل هذا اللغز ، رفعت عدستي الميكروسكوب الشيئية قليلاً ، لأعرف ما يوجد على الشريحة التي كانت تحتها ، ورأيت القطعة الدقيقة التي لا تتجاوز مساحتها عدة ملليمترات مربعة .
وقلت : هذه قطعة من جناح فراشة ملونة ، رد عليّ وقد تلاشت ابتسامته ، وكان يتكلم بجدية العالم : هي قطعة من جناح نعم ، لكن ليس جناح فراشة ، وهذا خطأ شائع ، فالناس لا يفرقون بين الفراشات ، وبين أبي دقيق ، لأنهما قريبان جداً من بعضهما ، والفروق بينهما قليلة لكنها واضحة .
الفرق بين الفراشة وأبي دقيق :
قال صديقي : إن الفراشات على عكس ما يعتقدون ، ألوانها غالباً باهتة ، وغير متعددة ، أما أبو دقيق ، فأجنحته ألوانها قوية ومتعددة ، والفراشات تظهر غالباً في الليل ، أما أبو دقيق ، فهو يظهر في النهار ، ويظن الناس أنه فراشة ، قلت إذاً ما أخذته هو جزء من جناح أبو دقيق ، وهو ملون فكيف تقول أنه بلا الوان ؟
أبو دقيق :
قال العالم وهو يدور حول الميكروسكوب ، إن أبو دقيق وأقاربه من الفراشات ، كلاهما من رتبة الحشرات التي تسمى حرشفية الأجنحة ، وهي تضم حوالي مائة ألف نوع ، لأن أجنحتها مغطاة بقشور دقيقة ، والجناح نفسه شفاف ، وهذه القشور الدقيقة ، أو الحراشف شفافة أيضاً .
وهي مرتبة في صفوف متراصة ، كما في قشور الأسماك ، وقد يقترب عددها من عشرين ألف حرشفة في السنتيمتر مربع عند أبي دقيق ، ومن هذه الحراشف ، اكتسب أبو دقيق اسمه لأننا عندما نمسكه ، ينفض من بين أصابعنا ، دقيقاً من هذه الحراشف .
وهذه الحراشف الشفافة ، هي التي تكسب أجنحته الألوان العديدة البديعة ، كدت أن أستوقف عالم الأحياء ، لأسأله كيف تمنح الحراشف الشفافة ، ألوانه العديدة ، ولكنه كأنما عرف سؤالي ، وأرد أن يجيب عليه .
فقال مكملاً حديثه : نحن نعرف تجربة المنشور الزجاجي الشفاف ، وكيف يحلل شعاع الضوء الساقط عليه ، إلى ألوان عديدة ، هي ألوان الطيف ، الأحمر والبرتقالي والأصفر والأخضر والأزرق والنيلي والبنفسجي .
ما تفعله الحراشف على جناحي أبي دقيق ، فهى تحلل ألوان الضوء كما يفعل المنشور الزجاجي ، ويسمح تركيبها المتكون على الأجنحة ، بتكوين انعكاسات بألوان متنوعة ، تصنع أمام أعيننا تلك الألوان المبهجة ، التي نراها في أجنحة أبي دقيق ، الذي نشاهد أفراده وجماعته أحياناً ، وتطير رائعة عن شمس النهار ، في الحقول والحدائق ، فوجدت نفسي أميل إلى الميكروسكوب لأعاود النظر ، مدهشا أكثر إلى تلك اللوحة الرائعة ، المرسومة بلا ألوان .