قصة في فصل الربيع حين تطل الأيام الجميلة ، وتستيقظ الأرض وتخضر ،
ويداعب الهواء الندى المعطر بشرتنا ، تنتابنا رغبات غامضة من السعادة لا حد لها ،
وميل إلى الركض ، والسير بلا هدف ، والبحث عن مغامرة ، فيسكرنا الربيع ،
بما أن فصل الشتاء الماضي كان قاسياً ، فإن الرغبة فيما يشرح القلب ، خلال شهر أيار ، تجتاحني كالسكر .
قصة في فصل الربيع
نبذة عن المؤلف :
قصة من روائع الأدب الفرنسي ، للكاتب هنري رينيه ألبيرغي دي موباسون، ولد موباسان ،
بقصر ميرونمسنل بنورمانديا بفرنسا ، في عام 1850م وتوفي عام 1893م ، درس موباسان القانون ،
والتحق بالجيش الفرنسي ، ثم عمل ككاتب في البحرية الفرنسية .
قصة في فصل الربيع
صباح جميل :
صباح أحد الأيام ، استيقظت لأشاهد عبر نافذتي ، فوق المنازل المجاورة ، السماء الزرقاء ، تلهبها الشمس ،
والعصافير على النوافذ تصدح ، وصوت الخادمات يرتفع عبر كل الطوابق ،
وضوضاء مرحة ترتفع من الشارع ، فخرجت وروحي في عيد ، لأذهب حيث لا أدري .
الناس الذين التقيت بهم كانوا يبتسمون ، نفحة من السعادة ،
كانت تهيم في كل مكان يغزو نور الربيع العائد والدفء يملؤه ، فتكاد تحس أن هناك رعشة حب تغمر الكون ،
والشابات من النسوة كن في ثياب ، وهندام الصباح ، يحملن في عيونهم حنانا ، ونعومة في مشيتهن ، فيملأن قلبي بالاضطراب .
جو ربيعي وجمال باريسي :
دون أن أعرف لماذا وكيف ، وصلت إلى ضفة نهر السين ، مراكب بخارية كانت في طريقها إلى سوريسين ،
تمتلكني فجأة رغبة لأن أجري عبر الغابة ، سطح قارب النزهة كان يعج بالركاب ،
لأن أول شمس ربيعية تجذبك رغما عنك من دارك ، الكل يتحرك ، يغدو ويعود ويحادث الجيران ،
بجواري وقفت عاملة على ما أعتقد ، وهي جارة شابة لها جمال الباريسيات ، لطيفة المظهر ،
ذات شعر أشقر مجعد عند فوديها وينحدر حتى أذنيها ويطير مع النسمات ، ثم يصبح في المنحدر ويزداد شقرة حتى يكاد لا يرى .
حب باريسي :
وتحت تأثير نظراتي الملحة أدارت رأسها نحوي ، ثم خفضت فجأة بصرها ،
بينما كادت تولد ابتسامة حركت زاوية فمها وظهر بوضوح ذلك الزغب الحريري وقد أضفى نور الشمس عليه لون ذهبيًا .
شيئًا فشيئًا كان عرض النهر يتسع ، والهدوء يملأ الجو وهمس الحياة بدا وكأنه يملأ الفضاء ،
رفعت جارتي بصرها ، هذه المرة نظرت إليها مليًا فابتسمت ،
كانت رائعة ، وفي نظراتها الهاربة رأيت آلاف الأشياء لم أكن قد رأيتها من قبل ،
شاهدت أعماقها غير المعروفة ، رأيت حنان وكل الأشعار التي نحلم بها وكل السعادة التي نبحث عنها ،
تمتلكني رغبة مجنونة لأن أفتح ذراعي وأحملها إلى مكان ما ، لأهمس في أذنها عذوبة كلمات الحب .
احذروا الحب :
كنت على وشك أن أفتح فمي لأكلمها ، حين لمس أحدهم كتفي ،
استدرت متفاجئ فلمحت رجلا ذا مظهر عادي ، لا هو بالشاب ولا هو بالمسن ،
ينظر إليّ نظرة حزينة ، قال : أود أن أحدثك ، عبست ، وأعتقد أنه لاحظ ذلك ،
لأنه أضاف : الأمر هام .. نهضت وتبعته إلى نهاية القارب ، فتابع قائلاً : حين يدنو الشتاء ببرده وثلجه ،
وأمطاره يقول لك الطبيب كل يوم : أبق قدميك في الدفء .
واحذر البرد والزكام والتهاب القصبات ، حينها تتخذ ألف احتياط فترتدي قمصان الفانيليا ومعطف سميك ،
لكن هذا لن يحميك من ملازمة السرير مدة شهرين ،
وحين يعود الربيع بأوراقه الخضراء فيحمل معك هذه الاضطرابات الغامضة ،
وأنت لن تجد شخص يقول لك : خذ حذرك من الحب أيها السيد ! .. فهو يتربص في كل مكان ،
يكمن لك في كل زاوية ، وأسلحته قد شحذت ، استعد بمكره .
احذر الحب ، هو أشد خطر من الزكام والتهاب المفاصل ، وهو لا يغفر ،
ويجعل كل الناس يرتكبون أخطاء غير قابلة للإصلاح .. نعم يا سيدي ،
أقول انه في كل عام يجب على الحكومة أن تضع اعلانات على الجدران ،
وعليها هذه الكلمات : عودة الربيع ..أيها المواطنون الفرنسيون ،
احذروا الحب .. وبما أن الحكومة لا تحذر من ذلك فأنا بالنيابة عنها أقول : احذر الحب ، فهو يقنصك ، وواجبي أن أحذرك ..
وقفت مندهشاً أمام هذا الشخص الغريب ،
فقلت له وقد قلبت سحنتي : يا سيدي لابد أنك تتدخل في شأن لا يعنيك البتة ،
قام بحركة فجائية وأجابني : يا سيدي إذا لاحظت أن رجلا سيغرق في مكان خطر ،
هل يجب عليّ أن أدعه يغرق ؟ تفضا استمع إلي قصتي وستفهم سبب جرأتي في التحدث إليك بهذه الطريقة..
بداية الحكاية :
حدث في العام الماضي ، وفي نفس الفترة ، عليّ أن أخبرك أولاً ، يا سيدي موظف في وزارة البحرية ،
حيث الرؤساء والمفوضون يأخذون على محمل الجد شارات مراكزهم كموظفين بيروقراطيين ليعاملونا كبحارة ،
لكن دعنا من ذلك ، كنت أرى من مكتبي طرفا من السماء ، بزرقة البحر ، حيث تطير طيور السنونو .
توقي إلى الحرية كان ينمو بحيث أنني بالرغم من نفوري ذهبت لأقابل رئيسي الكريه ،
وهو رجل صغير الحجم شره الأخلاق دائم الغضب ،
قلت له بأنني مريض .. نظر إليّ وصاح : لا أصدق شيئاً مما قلت يا سيد ، هيا اغرب عني ،
هل تعتقد بأن مكتبا ، يمكنه العمل بموظفين على شاكلتك ؟…. لكنني تسللت وذهبت إلى السين وكان الطقس كما هو اليوم ،
ركبت الزورق لأقوم بجولة من سان كلو .. آه يا سيدي ليت رئيسي شدد عليّ الخناق ، ومنعني من الخروج .
لقاء :
بدا لي أنني أتمدد بفعل الشمس ، أحببت كل شيء ، الزورق والنهر والأشجار والمباني ،
أخذتني رغبة لأن أقبل كل شيء أي كائنا من كان ، كان الحب يهيئ فخاخه !! وفجأة عند تروكاديرو ،
صعدت فتاة وبيدها علبة ، وجلست قبالتي ، كانت جميلة ،
لكن من المذهل كيف تبدو النساء أفضل حين يكون الطقس جميلاً في أوائل الربيع ،
لديهن خمر يسكر وسحر وشيء خاص بهن لا أعرف كنهه .
حديث وتعارف وإعجاب :
التفت إليها فحدتني بنظرها ، ولكن من وقت لآخر ، كما فعلت صاحبتك قبل قليل ،
وأخيرًا بعد نظرات متبادلة طويلة ، بدا لي كأن أحدنا يعرف الآخر كي نستسهل الحديث ،
كانت بالطبع لطيفة ، أسكرتني يا سيدي العزيز ..
نزلت من سان كلو فتبعتها ، كانت ذاهبة لتسليم طلب ، حين عادت كان القارب قد غادر ،
مشيت بالقرب منها ، ثم قلت لها : يقولون أن الطقس ممتع في الغاية ؟.. أجابتني : نعم ،
هو كما ذكرت .. أردفت وقلت لها : ما رأيك أن نقوم بجولة ، يا آنستي ؟
راقبتني بنظرة من رأسي حتى قدمي بنظرة منها تقدر بشكل صحيح قيمتي ،
ثم بعد تردد دام طويلاً وافقت ، سرنا جنباً إلى جنب بين الأشجار والأعشاب النامية الخضراء ،
كأنها ملمعه ، تغمرها أشعة الشمس التي تحرك مشاعر الكائنات ،
من كل حدب وصوب كنا نسمع شدو العصافير ،
أخذت مرافقتي تجري وتقفز وقد ثملت من الهواء الطلق أما أنا فكنت أجري خلفها وأقفز مثلها ، ألسنا أغبياء فعلاً يا سيدي ؟
ارتياح وشوق :
ثم بدأت تغني ، وتغني ألحانا من الأوبرا والرقصات الرعوية التي أعجبتني كثيراً ،
وأحسست بشاعريتها حينها .. كدت أبكي ، كل هذا الهراء كان يدور في رؤوسنا ،
لا تتخذ أبدا امرأة تغني في الأرياف ، وبخاصة إن غنت ألحان رقصات رعوية .
أحسست بعد فترة بالتعب فجلست على منحدر أخضر ،
أما أنا فجلست عند قدميها وأمسكت بيديها المتأثرة بإبرة الخياطه ،
وهذا بدوره ما أثر بي ، حدثت نفسي قائلًا : ها هي ذي علامات العمل المقدسة ؟
ثم حدق كل منا بالآخر ، يا لعيون المرأة كم تمتلك من قوة ، كيف تجعلك تضطرب ،
ثم تجتاحك وتمتلكك وتسيطر عليك ، كم تبدو عميقة الغور ، ملأ بالوعود باللانهاية ! .. الحاصل أنني كنت متحمساً بجنون ،
ركعت قربها وفتحت قلبي ، سكبت على ركبتيها كل الحنان الذي كان يخنقني ،
بدت وكأنها متعجبة من تغيير مسلكي ، وحدتني بنظرة جانبية ، كأنها تقول : هكذا إذن تستغل أيها الطيب ، حسنًا ! سنرى .
حب أم سذاجة :
يا سيدي في الحب كلنا سذج ، أما النساء فهن من صنف التجار ، كان بمقدوري أن أمتلكها بلا شك ،
وفهمت حماقتي فيما بعد ، لكن ما كنت أبحث عنه ،
لم يكن جسداً بل الحنان والكمال ، قدمت إحساس حين كان عليّ أن أحسن استخدام وقتي .. ما إن شبعت من بوحي ،
نهضت وعدنا إلى سان كلو ، ولم أتركها إلا في باريس ، بدت حزينة منذ عودتنا فسألتها عن السبب ،
أجابتني : أعتقد أننا حيال أيام لا تمر بنا كثيرا في حياتنا ، فكاد قلبي يخرج من أضلاعي ..
وتوالت اللقاءات :
قصة في فصل الربيع
رأيتها ثانية يوم الأحد التالي والأحد الذي تلاوه وكل أيام الآحاد ، صحبتها إلى بونجيفال ،
سان جرمان ، ميزون لافيت ، وبواسي ، إلى كل الأمكنة حيث يجتمع الأحبة القادمون من الضواحي ،
بدورها كانت اللعينة الصغيرة تستغل شغفي .. أخيراً فقدت الرشد وتزوجنا بعد ثلاثة أشهر ..
الوحدة والصحبة :
ما العمل يا سيدي ! أنا موظف أعيش وحيداً بلا عائلة ولا من يسدي لي النصح !
نعتقد أن الحياة تطيب بصحبة امرأة ، ثم نتزوج هذه المرأة ، بعدها تنهال عليك الاهانات صباح مساء ،
لا تفهم ولا تعرف شيئا ، تهدر وتثرثر بلا توقف ، تغني بأعلى صوتها أغنية الرعوي ،
تقاتل بائع الفحم ، وتذم زوجها لدى الباعة ، ورأسها محشو بقصص سخيفة ،
ومعتقدات غبية ، وآراء سمجة حتى أنني أبكي من الاحباط ، كلما حاولت محادثها يا سيدي ..
خداع :
سكت وقد أنهكه التعب والانفعال ، نظرت إليه وقد أشفقت على هذا المنكود البائس ،
وكنت على وشك أن أجيبه بشيء ما ، حين توقف المركب في سان كلو ، نهضت المرأة التي كانت قد تسببت باضطرابي ،
لتنزل مرت بالقرب مني وهي ترمقني بطرف عينها بابتسامة خاطفة ، ابتسامة تبعث فينا الجنون ، ثم قفزت من على الجسر !
النهاية :
قصة في فصل الربيع
أسرعت لألحق بها ، لكن جاري أمسك بي ،
تخلصت منه بحركة مفاجئة لكنه أمسك بقبضة يده هدب سترتي وشدني إلى الخلف وهو يكرر بصوت عال :
لن تذهب ! لن تذهب ! ..حتى استدار الجميع ليعرفوا ماذا يحدث ؟..
ساد الضحك والهرج حولنا ، وبقيت بلا حراك ، غاضبًا لكن مجرد من أي جرأة إزاء تلك الفضيحة والتفاهة ،
وانطلق المركب ، بقيت المرأة على الجسر تنظر إليّ وأنا أبتعد وعلى وجهها إمارات الخيبة ،
بينما كان معذبي يهمس في أذني وهو يفرك يديه : لقد أسديت لك اليوم خدمة ما بعدها خدمه ، هيا ..
إقرأ المزيد من القصص على موقعنا