قصة نزهة من روائع الأدب الفرنسي، للكاتب هنري رينيه ألبيرغي دي موباسون ،
ولد موباسان بقصر ميرونمسنل بنورمانديا بفرنسا ، في عام 1850م وتوفي عام 1893م ، درس موباسان القانون ،
والتحق بالجيش الفرنسي ، ثم عمل ككاتب في البحرية الفرنسية ،
كان من أشهر الكتاب الفرنسيين ، ذو الأسلوب المتميز في كتابة القصص القصيرة والروايات ذات الطابع الواقعي ،
وكان يكتب باللغة الفرنسية فقط ، ومن أشهر أعماله بيل أمي وكرة الشحم .
قصة نزهة
بداية القصة :
عندما خرج من المخزن العم ليراس ، ماسك الدفاتر عند لابوز وشركائه ، ظلّ بضع لحظات مبهوراً ببريق الشمس الغاربة ،
لقد عمل طوال النهار في النور الأصفر لمصباح الغاز ، في صدر مؤخرة الحانوت ، فوق الفناء الضيق والعميق كالبئر.
العمل :
كانت الغرفة الصغيرة التي قضى أيامه كلها فيها منذ أربعين عاماً ،
مظلمة جداً بحيث لا يكاد يستغنى عن إضاءتها من الساعة الحادية عشرة إلى الساعة الثالثة ،
حتى في أوج الصيف ، كان الجو فيها رطباً وبارداً دائماً وكان فوح هذا الضرب من الحفرة التي تنفتح عليها النافذة ،
يدخل الغرفة المظلمة ويملؤها برائحة متعفنة ، لها نتانة المجارير .
كان السيد ليراس منذ أربعين عاماً ، يصل كل صباح في الساعة الثامنة إلى هذا السجن ،
ويبقى فيه حتى الساعة السابعة مساءً ، مكباً على دفاتره ، كاتباً باجتهاد المستخدم الصالح .
حياته :
كان يربح الثلاثة آلاف في السنة ، إذ كان قد بدأ بألف وخمسمائة فرنك ،
ظل عازباً إذ أن موارده لم تسمح له بالزواج ، وبما أنه لم يستمتع قط بشيء فإنه لم يكن يرغب في شيء ذي بال ،
ومن وقت لآخر ، وحين يميل شغله الرتيب والمتواصل .
فكان يعرب عن هذه الأمنية الأفلاطونية : ويجي ، لو كان لي دخل من خمسة آلاف فرنك لعشت عيشة هنيئة ،
بيد أنه لم يعش قط عيشة هنيئة ، إذ لم يكن له غير مرتباته الشهرية ،
لقد انقضت حياته بلا حوادث ، ولا انفعالات ولا آمال تقريباً ،
إن ملكة الأحلام التي يحملها كل واحدٍ في ذاته ، لم تنم وسط تفاهة مطامحه .
دخل لدى لابوز وشركائه ، في سن الواحد والعشرين ، ولم يخرج من عنده ،
فقد أباه في سنة 1956م ، ثم فقد أمه سنة 1859م ،
ومنذ ذلك الحين لم يحدث شيء سوى الانتقال إلى مسكنه لأن صاحبه أراد أن يزيد الأجرة ،
في جميع الايام كان المنبه صباحاً وفي الساعة السادسة بالضبط يدفعه إلى الوثوب من سريره بضجيج رهيب لسلسة تبسط .
تغيير مفاجيء في الحياة الرتيبة :
بيد أن هذه الآلية تعطلت مرتين ، في عام 1966م وفي 1874م دون أن يعلم أبداً لماذا ،
كان يرتدي ثيابه ويرتب سريره ويكنس غرفته وينفض مقعده ووجه صوانه ، وكانت هذه الأعباء تتطلب منه ساعة ونصف .
ثم كان يخرج ، ويشتري هلالية من مخبز لاهور ،
الذي عرف أحد عشر صاحباً له دون أن يفقد اسمه ، ويستأنف سيره وهو يأكل هذا الرغيف الصغير ،
كان وجوده كله يتم إذن في ذلك المكتب الضيق المعتم المفروش ، بالورق نفسه ،
دخله شاباً كمساعد للسيد برومان وبه رغبة في أن يحل محله ، ولقد حل محله ولم يعد ينتظر شيئاً .
لا وجود للذكريات :
إن حصاد الذكريات التي يجمعها الناس في مجرى حياتهم ، والأحداث غير المتوقعة ،
وصنوف الحب العذبة أو المأساوية ، والرحلات المغامرة كل مصادفات الوجود الحر ظلت غريبة عنه .
تأمل :
تشابهت الأيام والأسابيع والشهور والفصول ، كان ينهض كل يوم ، في الساعة نفسها وينصرف ،
ويصل إلى المكتب ، ويتناول غذاءه ، ويذهب للعشاء وينام دون أن يقطع شيء ،
الرتابة المنتظمة للأفعال نفسها ، والأحداث نفسها ، والأفكار نفسها.
كان فيما مضى ينظر إلى شاربه الأشقر ، وشعره الجعد في المرآة الصغيرة المدورة التي تركها سلفه ،
فأخذ يتأمل الآن كل مساء ، قبل أن ينصرف ، شاربه الأبيض وجبهته الصلعاء في نفسها ، انقضى أربعون عاماً ،
طويلة وسريعة ، فارغة كيوم من الحزن ، ومتشابهة مثل ساعات ليلة ثقيلة ،
أربعون عاماً لم يبق منها شيء حتى ولا الذكرى ، حتى ولا مصيبة منذ موت أبويه ، لا شيء .
نزهة:
في هذا اليوم ظل السيد ليراس ، مبهوراً ببريق الشمس الغاربة ، وبدلاً من أن يعود إلى منزله ،
خطر له أن يجول جولة صغيرة قبل العشاء ، وهذا مما يقع له أربع مرات أو خمساً كلّ عام.
بلغ الجادات التي كان يتدفق فيها سيل من الناس تحت الأشجار التي عادت إليها خضرتها ، كان مساء ربيعيًا ،
من تلك الأمسية الأولى الدافئة والرطبة التي تثير في القلوب نشوة الحياة ،
كان السيد ليراس يسير بخطوته ، خطوة عجوز منطنطة ، كان بمضي وفي عينيه مرح ، سعيداً بالفرح الشامل وبفتور الهواء .
بلغ الشانزليزيه وتابع سيره ، تنعشه دفقات الشاب التي تمر في النسيم ،
كانت السماء بأسرها تلتهب ، وكان قوس النصر يبرز بوضوح كتلته السوداء على خلفية الأفق البراقة ،
وعندما وصل إلى جانب ذلك الصرح الهائل ، أحس ماسك الدفاتر العجوز أنه جائع فدخل دكّان خمور ليتناول العشاء .
قُدم له الطعام أمام الدكان على الرصيف ، من لحم الخروف والسلطة والهليون ،
تناول السيد ليراس أفضل عشاء منذ زمن طويل ، ثم شرب فنجان قهوة وذلك قلما يقع له ،
وعندما دفع الحساب أحس بنفسه شديد القوة والمرح ،
مع شيء من الاضطراب ، وقال في نفسه : إن الأمسية جميله سأتابع نزهتي حتى مدخل غاب بولونيي ، فذلك يفيدني .
ليل باريس :
وهبط الليل على باريس ليل بلا ريح ، كان السيد ليراس يسلك جادة غابة بولونيي وينظر إلى العربات وهي تمر ،
كانت تصل بعيونها اللامعة الواحدة تلو الأخرى ، مظهرة للحظة زوجين متشابكين ،
المرأة بفستان فاتح والرجل مرتدياً الأسود ، كان موكباً طويلاً من العاشقين ، يتنزهون تحت السماء المنجمة والحارقة.
جلس السيد ليراس الذي تعب أخيراً ، على مقعد العربات المثقلة بالحب ،
وما لبثت أن دنت منه امرأة وجلست بجانبه وقالت : يومك سعيد يا صغيري ! هلا استسلمت للحب يا عزيزي ! سترى أنني لطيفة !
فقال لها : أنت مخطئة يا سيدتي ، ونهض وابتعد وهو منقبض الصدر ،
ومرت بجانبه نساء أخريات ، ونادينه ودعونه ، بدا له وكأن شيئاً أسوداً يمر على رأسه ، شيئاً مؤلماً ،
جلس من جديد على مقعد ، كانت العربات تجري أبداً ، وفكر : كان الأفضل لي لو لم آت إلى هنا ،
ها أنا ذا مضطرب أشد اضطراب ، منزعج أشد انزعاج ، أخذ يفكر في كل ذلك الحب المدفوع الثمن ، الذي يمر أمامه .
الحب :
لم يكد يعرفه ، لم تكن في حياته سوى امرأتين أو ثلاث بالمصادفة ، ذلك أن موارده لم تكن تسمح له بأي تجاوز ،
وفكر في هذه الحياة التي عاشها ، المختلفة كل الاختلاف عن حياة الآخرين ،
في هذه الحياة الكالحة جداً ، الكئيبة جداً ، المسطحة جداً ، والفارغة جداً ،
هناك كائنات ليس لها في الحقيقة حظ ، وكأن غشاً سميكاً مزق وأبصر شقاء ،
شقاء لا نهاية له ، كان موكب العربات لا يني يمر ،
وكان يرى دائماً أثناء المرور السريع للعربة المكشوفة الكائنين المتشابكين يظهران ويختفيان ،
وكان وحده ينظر إليها ، وحده كما لم يكن انسان كذلك .
الحياة :
نهض وخطا بضع خطوات ، وفجأة تعب ، كأنه أتم سفراً طويلًا على قدميه ،
وعاد إلى الجلوس على المقعد الذي يليه ماذا كان يريد ؟ ماذا كان ينتظر ؟ لا شيء ،
وفكر في أن حياة المرء لابد أن تكون هنيئة وهو عجوز ، إذا عاد إلى منزله ووجد أولاد صغاراً يثغثغون ،
الشيخوخة حلوة عندما نكون محاطين بهذه الكائنات التي تدين لك بالحياة ،
التي تحبك تلاطفك ، التي تقول لك تلك الكلمات الساحرة والبلهاء التي تدفئ القلب وتعزي عن كل شيء .
الغرفة:
وعندها فكر بغرفته الخالية ، الصغيرة النظيفة الحزينة ، انقبضت نفسه بإحساس من الضيق ،
بدت له تلك الغرفة أجدر بالرثاء من مكتبه الصغير ، لم يكن أحد يأتيها ولا أحد يتكلم عنها ، كانت ميتة دون صدى لصوت بشري .
وكأن الجدران تحتفظ بشيء من الناس الذين يعيشون
فيها،من وجوههم من كلامهم ،
وكأن البيوت التي تقطنها الأسر السعيدة أبهج من مساكن البؤساء ،
أخذت فكرة العودة إلى تلك الغرفة المشؤمة ترعبه ، وكأنما أراد أن يزيد من البعد عن ذلك المسكن ،
فنهض ولقي فجأة أول ممر في الغابة ، فدلف إلى حرجة ليجلس على العشب.
نَفَس باريس :
كان يسمع حوله ، وفوقه وفي كل مكان ، جلبة مبهمة ، عريضة متصلة ، مؤلفة من أصوات لا تحصى ،
مختلفة قريبة ، بعيدة هي خفق الحياة الغامض الهائل :
نفس باريس التي تتنفس كالكائن الجبار ، كانت الشمس المرتفعة تصب سيلا من الضياء على غابة بولونيي ،
أخذت بعض العربات تجري ووصل الفرسان بمرح .
نهاية ليراس :
كان زوجان يسيران خطوة بخطوة في الممر ، وفجأة شاهدت المرأة التي رفعت عينيها ،
شيئاً أسمر في الأغصان ، رفعت يدها وهي مدهوشة ، انظر……….ما هذا ؟! .
ثم أرسلت صرخة وارتمت بين ذراعي رفيقها ، الذي اضطر أن يضعها أرضاً ،
ما لبث الحرس أن دعوا ، وأنزلوا رجلاً عجوزاً مشنوقاً بحمالتيه ، وتبين أن الوفاة تعود إلى العشية مساءً ،
وأثبتت الأوراق التي يحملها أنه ماسك دفاتر عند لابوز ،
وشركائه واسمه ليراس ، عزي الموت إلى انتحار لم يشتبه بأسبابه ، وربما كانت نوبة مفاجئة من الجنون .
إقرأ المزيد من القصص على موقعنا