للنساء في قصص التاريخ حكايات لم تروى ، وحكايات أخرى حفظتها الأجيال المتوارثة حتى وصلت إلينا ، ومن تلك الحكايات قصة نهاية الملكة أيرين ، والتي كانت وصية على عرش روما حتى يبلغ ابنها قسطنطين السن القانونية لتولي مقاليد الحكم بالبلاد .
وقد قال عنها المؤرخون أنها كانت امرأة في غاية الحسم ، تستطيع تغيير مسار التاريخ وقيادة الجيوش بإشارة منها ، وكان للملكة ايرين طموحات لا حدود لها حتى أنها استأثرت بالحكم على حساب ابنها لتستمر كإمبراطورة على الدولة البيزنطية .
وقد كانت امرأة ذكية تدرك جيدًا أن لا قبل لها بالقوات الإسلامية آنذاك ، والتي كانت تتبع هارون الرشيد ، لذا وافقت على المهادنة ودفع الجزية بدلًا من الدخول في حرب خاسرة لن تجني ثمارها .
ولكن على عكس منها كان ابنها قسطنطين ، فحينما بلغ سن الرشد لم يكن على درجة كافية من الحنكة السياسية ، وتصور أن الجزية التي يدفعها لهارون الرشيد نوعًا من الإذلال ، فقرر منعها ومواجهة الجيوش الإسلامية ؛ حيث اعتقد بغروره الزائف أن سيتمكن من مجابهة هارون الرشيد ، وحصد المجد على حسابه.
ولكن لم تكن ايرين ذات الطموح الجارف لتسمح بذلك ، فهي لم ترغب في التناول عن السلطة حتى لو كان من سيتولى العرش ابنها ، فأطاحت بقسطنطين وحاكت ضده مؤامرة ولم تراع أنها أم لولدها ، فقررت أن تسمل عينيه حتى تمنعه من اعتلاء العرش ، وحكمت هي بعد ذلك تحت اسم الإمبراطورة أوجستا .
والغريب حقًا هو أنها لم تظل طويًلا في السلطة ، فقد قامت ضدها ثورة بقيادة أحد النبلاء ويدعى نقور ، نحاها بعدها عن السلطة واستولى هو على الحكم ، ولكنه لم يكن بالحكمة التي تؤهله لقيادة بيزنطة .
فقد أراد أن يتفاخر أمام شعبه ويشعرهم أنه قائد عظيم لا يرضخ لأحد ، فنقض الاتفاق الذي كان بين الإمبراطورة ايرين ، والخليفة هارون الرشيد ، وأرسل إليه برسالة وقحة يقول فيها أن من أبرمت معهم المعاهدة امرأة ضعيفة أما هو فلا ، وأن المسلمون هم من يجب أن يدفعوا الجزية للروم لا العكس .
فلما قرأ الرشيد رسالته تملكه الغضب من هذه الجرأة الوقحة ، ونقض العهود ، فأرسل إليها هارون الرشيد برسالة حية قال فيها : بسم الله الرحمن الرحيم من هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى نقور كلب الروم ، لقد قرأت كتابك ، والجواب ما تراه دون أن تسمعه والسلام ، وفي نفس اليوم أرسل له الرشيد قوة هائلة قادها بنفسه لتأديبه .
وما كاد ملك الروم يسمع عن تقدم الجيوش الإسلامية واجتياحها أسيا الصغرى مقتربة للعاصمة البيزنطية ، حتى انهارت قواه وخشي من ردة فعل الرشيد ، فأرسل على الفور يخبره بأنه سيدفع الجزية حسب الاتفاق القديم بينه وبين ايرين ، فعاد هارون الرشيد ولم يدخل بيزنطة .
ولكن الغريب في الأمر أن هذا الإمبراطور ألغى اتفاقه للمرة الثانية بعد انسحاب قوات الرشيد ، فعاود الرشيد الكرة ولكن هذه المرة اجتاح بقواته بلاد الروم وهزمهم هزيمة ساحقة ، فاضطر الإمبراطور لدفع الفدية وهو صاغر .
وأراد الرشيد أن يذله لتعجرفه فطلب منه صك الدنانير باسم الرشيد وأولاده ، والإفراج عن من لديه من أسرى المسلمين ، وعاد دون أن يغير على العاصمة البيزنطية نفسها ، ولو كان قد فعل لغير مسار التاريخ كله .
ولما لم يستطيع نقور هزيمة المسلمين أخذ يبحث عن أي نصر قريب ، فاجتاح بلاد البلغار وضمها له ، ولكن البلغار لم يستسلموا له بسهولة ، فقرروا أن يوقعوا به الهزيمة وهو في طريق بيزنطة ، حيث كان سيمر ببعض المضايق الجبلية الوعرة التي يعرفون بمسالكها .
وبالفعل هاجموه أثناء عودته وأفنوا جيشه عن بكرة أبيه ، وانتهى الأمر بقتل نقور لنفسه وكان ذلك في 26 يوليو عام 811م ، والعجيب في الأمر أن ملوك البلغار أصروا على فصل رأسه عن جسده ، وأخذ جمجمته بعد طليها بالفضة ، لتصبح قدحًا يشربون به الخمر .