دولة قائمة بذاتها كانت في هذا المكان الذي يعج بالحركة والعمل ، فكل شيء محسوب وله وقت محدد ، ولا ينبغي بأي حال من الأحوال تجاوز هذا الوقت ، فالتأخير يعني الغرامات القاسية على المسؤل عن هذا التأخير .
كل شيء بحساب :
ويوجد خبراء محايدون يقدرون الخسائر وعلى أي طرف تكون ، وكله بالورقة والقلم والساعة ، فأعمال صيانة وإصلاح السفن في الأحواض الجافة يتم حسابها بدقة متناهية ، فهي مكلفة بطبيعتها ، وليس باليوم فقط ، بل بالساعة أيضًا ، التي ستفرق في فاتورة الحساب الكثير ، وفي سنغافورة الحساب لن يكون في يوم الحساب ، كما نقول نحن .
فهناك ألف عين تراقبك أنت وسفينتك ، وألف حبل يربطها في الرصيف ، حتى لا تغادر مكانها قبل الدفع ، فلا أحد في سنغافورة يبكي على اللبن المسكوب ، فالبكاء هناك غالباً يكون على رأس الميت ، ذلك الميت الذي سيكون سفينتك ، بعد حجزها لحين استيفاء فواتير الحوض .
ترسانة كيبيل :
وفي الوقت الذي تفخر فيه أي ترسانة في العالم بأن لديها حوضاً جافاً كبيراً يستوعب أي سفينة حتى ناقلات البترول الكبيرة ، يوجد في ترسانة كيبيل أكثر من عشرة أحواض جافة ، وكنت عندما أسير بين تلك الأحواض أتخيلها أحواض لغسيل الوجه وليس للسفن ، كم كثرتها وكثرة السفن فيها ، فالحوض الواحد يمكنه أن يستوعب ثلاث سفن متوسطة الحجم ، أو سفينة واحدة من الحجم السوبر ، مثل ناقلة النفط الكويتية المجاورة لنا .
ديفيد الأسطوري :
وعمل الأحواض الجافة هو عمل كثيف ومتشعب ويحتاج لتخطيط بالورقة والقلم وبرنامج باليوم والساعة ، فلا يمكن تعويم سفينة وهي مفتوحة البدن من أسفل ، حتى تدخل سفينة أخرى أمامها أو خلفها في الحوض ، وكذلك لا يمكن تأخير موعد دخول السفينة الأخرى .
باختصار نحن أمام عمل محسوب ومخطط له على أعلى مستوى من التناغم ، فالخامات يتم توريدها في أوقاتها ، والأعمال يتم انجازها في الوقت المحدد لذلك ، والفواتير كذلك يتم تحريرها لتتراكم على المكاتب أولاً بأول ، وكل هذا كان يتابعه شخص واحد أسطوري ، ومخه كما كنا نطلق عليه ذري ، وهذا الشخص يدعى ديفيد ، ولم نكن نعرف عنه أكثر من هذا الاسم ، المكتوب على البادرج الملصق المعلق على جيب أفروله .
مدير أعمال الحوض :
لم يكن يبدو على ديفيد ، أي علامة من علامات التميز ، فقد كان يبدو مثل شخص هندي عادي ، قصير القامة ووجهه معروق ومجهد ، أشبه بوجوه عمال التراحيل ، وذلك عندما دخل علينا ديفيد ليسأل عن بعض الأشياء .
فلم نهتم به بعد أن خدعنا في هيئته الملخبطة ، حتى عرفنا بنفسه مشكوراً بأنه مدير أعمال الحوض ، وتلك وظيفة لايقوم صاحبها أبداً بالخروج من مكتبه المكيف ، ولكن ليس في سنغافورة ، بل لدينا في الترسانات المصرية الخالية من السفن ، أما في سنغافورة فربما صنعت المكاتب لحفظ أوراق العمل فقط .
بلد ديفيد :
لكن ديفيد كان في بلدة تقع في شمال الهند ، كما قال لنا عندما سألناه عن جنسيته ، فقد كنا نعتقد أن اسم ديفيد هذا لا يمكن أن يكون هندياً بأي حال من الأحوال ، فعلى الأقل يجب أن ينتهي اسمه ب شان ، خان ، أو سنج ، كما علمتنا سينما بوليود الهندية ، والتي كان يتابعها كثيرون معنا على السفينة ، ويظنون أن كل مايرد في الأفلام الهندية هو تمامًا ما يحدث في الهند .
ولكن ديفيد أكد لنا أن الهند بها مناطق بها ، ديفيد ، فيليب ، وجون ، وتمامًا كما يوجد بها ، قمر وأكبر وأنتوني ، كما كان يغنى أميتاب باتشان في أحد أفلامه ، التي شاهدها أحد الزملاء ليثبت أنه مصري هندي مشترك ..
وظيفة ديفيد :
لم يكن ديفيد يتابع سفينتنا فقط ، لكن كان يتابع عدة سفن أخرى في الحوض ، بل ويتابع حوضاً آخر كذلك ، ويحمل في جيبه نوتة صغيرة ، يدون فيها ملاحظاته من هنا وهناك ، ويلاحظ مئات العمال على مدار يوم عمله ، الذي ينتقل فيه من سفينة إلى أخرى مثل النحلة ، حتى بدأ بعضنا يتابع الرجل باهتمام ، ففي الوقت الذي ينشغل فيه كل منا في عمله الصغير على السفينة ، وينوء بكل الأعمال الموكلة إليه ، نجد هذا الديفيد يتابع كل هذه السفن ، ودون أي خطأ واحد ، بل انه يتذكر كل شخص تحدث معه في كل مرة !!
الوجه الآخر لسنغافورة :
لم نكن ندري كم يوجد من نوعية ديفيد ، هذا في كل أحواص الترسانة ، ولكن من الواضح أن العمل في سنغافورة يحتاج إلى أشخاص من نوعية خاصة ، أشخاص يعتبرون العمل مهام محددة ، ويجب انجازها بخطط مدروسة .
لا مجرد مواعيد دوام يجب قضاؤها والسلام ، ولهذا كان ديفيد هو صورة ملخصة ، للوجه الآخر لسنغافورة الذي كنا نراه للمرة الأولى ، وجه رأسمالي قاس قح ، يطلب منك أن تعمل بطاقة عشرة أشخاص ، ولو نقصت منك طاقة شخص واحد وصرت تسعة ، فعليك أن تسعى على رزقك في مكان آخر ، يقبل بعمل تسعة أشخاص ويعطيك راتب شخص واحد .