غريب أمر هؤلاء الإنجليز ، لم يحتلوا بلد إلا وتركوا فيها عادة إنجليزية أصيلة ، لكن الأغرب من تلك العادات الإنجليزية الأصيلة قد انتزعها الإنجليز أنفسهم ، من شعوب أخرى دون استئذان !
الانجليز وبراءة الاختراع :
ليسوقوها للعالم كله بعد ذلك ، دون أدنى اعتبار لحقوق الملكية الفكرية ، أو حتى براءات الاختراع ، التي اخترعها الإنجليز أيضاً ، ليكونوا أول من يعتدي عليها ، فقد خرجت أول جملة لـ MADE IN ، أو صنع في من الجزر البريطانية ، لتضرب الصناعة الألمانية الرديئة في ذلك الحين ، وصارت خراف أستراليا المكتنزة تضحي بأصوافها ، من أجل تدفئة الإنجليز بالمعاطف الصوف وارد مصانع يوركشاير ، وتضحي حقول مصر بأقطانها من أجل كسوة جنود الإمبراطورية التي لا تغرب عنها الشمس .
الشاي الهندي :
أما تلال سيلان والهند فتجود بأفضل أوراق الشاي ، من أجل عيون جناب اللورد ، الذي يحرص على تناول فنجان الشاي الساعة الخامسة ، ماركة ليبتون وبروك بوند ، في تراس منزله بالريف الانجليزي ، الذي هو ألماني الأصل والنشأة تماماً .
أنا اللورد :
إلى هنا وقررت أعيش حياة اللوردات ، وإن كنت من لوردات آخر الزمن طبعًا ، بلا بدلة من الصوف الإنجليزي ، بسيديري له جيب صغير للساعة بكاتينه ، وقبعة تميل على الجبهة ، مع العصا الأبنوس التي تمشي مع الحذاء الأجلاسيه مارشا عسكري ، وكأنني شرلوك هولمز ، في عز تألقه .
ولكن كل هذا راح حتى من الانجليز أنفسهم ، وإن ما بقي كوب الشاي الانجليزي الأحمر مع الكيك عادة أصيلة لن أتنازل أنا شخصياً عنها اليوم ، خصوصاً بعدما رأيت صالون الشاي الأنيق ، الذي تنقلك ديكوراته إلى أبّهة الماضي العريق ، وتكاد تشعر وأنت تجلس فيه أن الملكة فيكتوريا ستنادي عليك ، لتنعم عليك بلقب سير ، فقلت أسير على بركة الله وأدخل المحل وأعيش اللحظة .
محل الشاي :
كان المحل ، ولا أقول الكافيه طبعًا ، هو أحد محلات المول الكبير في الدور الأرضي ، وعلى الرغم مما يبدو عليه من طراز قديم من الخارج ، حيث تزينه تماثيل الأبنوس الفالصو طبعًا ، وكذلك صورة كبيرة للتاج البريطاني وشعارات الامبراطورية .
لكن كان المحل في الداخل حديثا للغاية ، وعلى الطراز الأميركي ، فالكراسي عالية ودائرية تلتف حول بار عال ، على هيئة نصف دائرة ، وتقف خلفه مقدمة الطلبات التي يبدو أنها فيليبينية ، التي على الرغم من وجودها لكنها لم تتعب نفسها وتمد يدها الفلينية الصغيرة لتقدم لك الطلب الساخن .
الشاي الطائر :
فقط عليها أن تحصل على النقود ثم يأتي إليك الطبق طائراً ، ولكن ليس على جناحين أنما على سير يلف على كل الزبائن ، وكل ما عليك هو أن تسحب صينية الطلب من على السير لتضعها أمامك على رف منخفض قليلاً ، والأهم أنه ثابت لا يتحرك ، ولا خوف من ضياع طلبك عند زبون آخر عينه فارغة ، فجميع الطلبات هناك واحدة ، فنجان من الشاي وبجانبه قطعة كيك واحدة ، والثمن خمسة دولارات كاملة .
انتهى عصر اللوردات :
ولكن أين اللوردات والخدمة الفخمة والانحناءات ؟ عفواً لا توجد هذه الأشياء بالداخل ، فقط توجد صور على باب المحل ، فترحمت على أيام الامبراطورية التي غربت عنها الشمس فعلاً ، ولم يتبقى منها إلا صور على أبواب الكافيهات .
ولكن كان الشاي جيداً على كل حال ، أما الكيك فلم يكن يفرق كثيراً عن أي كيك رديء الصنع ، ومن صنعه قد فتح عليه باب الفرن أكثر من مرة ، فقلت : الحمد لله على الشاي ، أما الكيك فهذه من عواقب التشبه بالفرنجة !